JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

معركة حماة وأعراض الثورة المضادة


عبد الغني مزوز---

لم يكن وقع معركة حماة التي أطلقتها هيئة تحرير الشام في 20/09/2017 ثقيلا وصادما فقط على الذين تعهدوا مسار المصالحة مع بشار الأسد وبدلوا جهودا مضنية من أجل إعادة تأهيل نظامه وترميم شرعيته، بل كان وقعها أشد على الذين كانوا إلى عهد قريب ينتسبون إلى الثورة واحترفوا التنظير لها وربما رابطوا يوما على جبهة من جبهاتها. لقد استطاع النظام الدولي أخيرا استصدار صكوك الإدانة للثورة من بعض أنصارها ورجالها، ولن يكون هذا غريبا أو خاصا بالثورة السورية لو استحضرنا تجارب ثورية سابقة سواء في الشرق أو الغرب، ولو تأملنا في التفكك كحتمية تنتظر أي " كتلة تاريخية" ناشئة بالمفهوم الغرامشي.

كان أمرا مثيرا أن تغطي الدعاية الثورية الصاخبة الموجهة ضد معركة حماة على دعاية النظام السوري، وتنافس حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي محسوبة على الثورة قناة الدنيا ووكالة ساسنا في نشر الأكاذيب وبث الإشاعات، حيث تفرغ شيوخ وناشطون للطعن في نوايا الثوار والتشكيك في أسباب المعركة وجدواها، ولعل من أشد تلك التعليقات بؤسا وطرافة أيضا تلك التي تربط توقيت المعركة بمحطة " أستانا6" إذ اعتبر أصحابها أن الجولاني يسعى إلى تخريب المكاسب السياسية للثورة وإفشال مسارها السياسي، هكذا ودون مسحة من خجل تُصبح لحظة اغتيال الثورة ووضع سوريا تحث الوصاية الدولية وإعادة إنتاج النظام الطائفي وتبييض سجل حلفائه (إيران وروسيا) تُصبح لحظة انتصار مجيدة، بينما تغدو المعارك التي تستهدف ميلشيات النظام تخريبا وجريمة بحق الثورة يقترفها الإرهابيون والغلاة. 

لا شك أن بعض من اختاروا الوقوف إلى جانب الثورة فعلوا ذلك مسايرة لموضة كانت شائعة مع بدايات الربيع العربي، ومن طبيعة الموضة أنها تتغير من حين لآخر، وبالتالي فهؤلاء غيروا أفكارهم وولاءاتهم الثورية تماما كما يغير المهووسون بالموضة أزيائهم وقصات شعورهم. ولو قرأنا المسألة على نحو أعمق فسنجد أن ثمة مجهودا قائما منذ انطلاقة الربيع العربي يهدف إلى إعادة تعريف المفاهيم الكبرى التي أطرت حراك الشعوب على امتداد المساحة التي شغلها الربيع العربي، فمثلا: الهوية الإسلامية الجامعة حلت محلها الهويات الفرعية. الحرية حلت محلها مفاهيم الأمن والاستقرار. الثورة حلت محلها مفاهيم الإرهاب والتطرف. فأي حديث عن الهوية الإسلامية يتم اعتراضه بالحديث عن حقوق الأقليات الدينية والعرقية والمجتمعية (أكراد؛ علويون؛ نساء؛ مسيحيون) وأي حديث عن الحرية يتم تهميشه بالحديث عن الأمن والاستقرار والتنمية وأي حديث عن الثورة يكون محل إدانة واتهام فهي المرادفة للإرهاب والتطرف. وقد أكدت فعاليات معركة حماة أن النظام الدولي نجح في غسل أدمغة الكثيرين، عندما لقنها تعريفاته الخاصة والمؤدلجة لمفاهيم كانت قبل 6 سنوات محط إجتماع؛ مفاهيم مؤسسة كانت لا تقبل أي جدل أو نقاش. 

لقد أصبح بشار الأسد الذي قتل وهجر الملايين شريكا سياسيا لا حرج من الجلوس والتفاوض معه، وأصبحت روسيا التي قتلت بأسلحتها المتطورة آلافا من المدنيين وسوت مدنا كاملة بالأرض طرفا محايدا وضامنا، بينما أصبح الجولاني مجرما إرهابيا، وأصبحت المعارك ضد ميلشيات النظام أعمالا تخريبية. وغدت إدلب مفرخة للإرهابيين أو " إدلبستان" كما وصفها أحد أساطين المعارضة السياسية ! لم يكن ما سبق التجلي الوحيد لانحسار مساحة الثورة في وعي نخبها، فهناك تجليات أخرى أكثر فجاجة وأبلغ في التعبير عن حالة التأزم المزمن الذي وصلت إليه بعض الأصوات المحسوبة على الثورة. هذا دون أن نشير إلى بعض المناطق حيت صُفيت فيها الثورة ماديا ومعنويا كالغوطة الشرقية؛ هناك حيت مدت الثورة المضادة رجليها تحت حراسة أمراء الحرب الغيورين على عقيدة السلف !

لكل ثورة ثورة مضادة، هذا الديالكتيك الأزلي ينتصب كقانون من أبسط قوانين الثورات وحركات الشعوب. وعندما نخفق في تحديد ملامح الثورة المضادة في سوريا فإن ذلك لا يعني انتفائها أو أن الحالة السورية استثناء في التاريخ الإنساني، بل يوحي ذلك بوجود تصدعات في الوعي وربما تلف في الذاكرة، ذاكرة لم تعجز فقط عن قراءة معطى تاريخي قريب لا يتجاوز عمره بضع سنوات وإنما امتد إلى قصور في قراءة أوضح معطيات الحاضر وأشدها بروزا. الثورة المضادة لا تعلن عن نفسها وإنما يصحب ظهورها أعراض ومؤشرات. كما أن رؤوسها لا ينتمون بالضرورة إلى طيف سياسي واحد أو مرجعية فكرية واحدة، فالثورة المضادة في مصر جمعت السلفي والقومي والليبرالي واليساري والصوفي.. وكان الخيط الناظم لهذا الكوكتيل المتنافر هو العداء لفكر الثورة وعداء أشد لحملة هذا الفكر خصوصا إن كانوا من التيار الإسلامي، ويحدث أن يتحول الثائر من صف الثورة إلى معسكر الثورة المضادة عندما يرى أن خصومه في الفكر والسياسية قد بوأتهم الثورة مكانة مؤثرة بينما وضعته هو على هامش الواقع والتأثير.

إن إدانة الثورة والكيد للثوار، والتودد للمنظومة السياسية البائدة أو استدخال أيا من رموزها ورجالها إلى حيز الثورة، وإشاعة خطاب تصالحي مع من أجرم بحق الثوار.. كلها أعراض ومؤشرات لثورة مضادة في طور التبلور. ولا يمكن فهم حالة الهستيريا التي اجتاحت بعض الشيوخ والناشطين في سوريا وهم يتابعون معركة حماة إلا في هذا الإطار. قد يجادل البعض أن من بين هؤلاء الشيوخ والناشطين من به رمق من الثورة والمعارضة، لكن هؤلاء قد فاتهم ربما أن النظام الدولي بقدر ما هو مهموم بإعادة ترميم شرعية النظام الأسدي وتقويم مؤسساته المتداعية، بقدر ما هو مهموم أيضا بصنع معارضة له، فالمعارضة لا ينبغي لها حسب معايير النظام الدولي أن تكون إسلامية، ولا مستقلة في قراراتها ومواقفها ويجب أن تقبل بأي مقترحات للحل يقدمها الكبار، كالانتخابات الصورية التي يكون الجلادون جزء منها والتدخلات العسكرية الأجنبية التي تمرر تحت عناوين حفظ السلام وحماية المدنيين ومراقبة وقف إطلاق النار وغيرها.

لو تأملنا في الحالة المصرية لرأينا كيف أن رموز الثورة ورجالها إما زُج بهم في السجون والمعتقلات وإما مفرقون في المنافي والشتات، والنظام السابق عاد وأمسك بزمام الحكم والسلطة، ومعارضوه اليوم كانوا بالأمس وجوها بارزة في ثورة يناير كحمدين صباحي ومحمد البرادعي وعبد الحليم قنديل وغيرهم. فالنظام الدولي أعاد إنتاج نظام مبارك وأمن له معارضة شكلية كانت في يوم من الأيام جزء من الثورة. وهذا ما يحدث في راهن سوريا؛ إعادة تدوير النظام الطائفي وتأمين معارضة معتدلة له يتم انتقائها بعناية فائقة من معسكر الثورة.


إن تبخيس المنجز الثوري عرفته جميع ثورات الربيع العربي، لقد تم التشكيك في المشاريع الكبرى التي أطلقها الرئيس المعزول محمد مرسي، ووصفت في إعلام الفلول ومنابر الثورة المضادة بالمشاريع العبثية التي ترمي إلى وضع مقدرات مصر تحث سيطرة الإخوان، ويجري تبخيس المنجزات الثورية في سوريا اليوم فيتم وصفها بالمشاريع القاعدية كما تُوصف المعارك ضد النظام بالمعارك العبثية التي لا تجدي شيء. إن بوابة "الأخونة" التي نفذت منها رياح الثورة المضادة في مصر هي نفسها التي ستنفذ فيها رياح الثورة المضادة في سوريا لكن بعد تغيير يافطة " الأخونة " إلى " القعدنة".
الاسمبريد إلكترونيرسالة