JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

الإسلاميون وعقدة الدونية


عبد الغني مزوز---

في كثير من السجالات التي تتصدى لأزمة الحركة الإسلامية وإخفاقاتها المهولة، تحاول أصوات كثيرة بحسن نية طبعا أن تربط هذه الإخفاقات بقصور فقهي أو سياسي أو عجز من رواد الحركة الإسلامية ورموزها عن صياغة رؤية شرعية سليمة تتيح لها إحداث اختراق نوعي في سديم العبث المخيم عليها مند عقود. فتتناسل الأطروحات الفكرية والدراسات النظرية كل واحدة منها تزعم لنفسها أنها "المانفستو" الذي سينتشل الحركة الإسلامية من وادي الفشل الذي تردت فيه، ويعيد إليها ألقها وإيجابيتها لتكون فاعلا حضاريا تستأنف عبره الأمة مسيرتها ورسالتها. عشرات آلاف من الكتب والدراسات والمقاربات عن الشورى والديمقراطية والحكم الإسلامي والاستبداد والمقاومة وفي كل مرة تتاح للحركة الإسلامية استدعاء شيء من تراثها هذا وتنزيله على أرض الواقع سواء في حقبة الانقلابات العسكرية أو لحظات الغزو والاحتلال أو محطات الربيع العربي إذا بالحركة الإسلامية وقادتها يجنحون إلى زاوية السلبية والانهزامية مجددا، زاعمين لأنفسهم الحكمة وبعد والنظر واتساع الأفق، ومعتصمين بمقولات الاستضعاف والمصلحة والتدرج، ثم أخيرا أعلنها قطاع عريض منهم أنهم ليسو حركة إسلامية بل أحزاب سياسية مدنية ديمقراطية يجري عليها ما يجري على غيرها، ثم ناد مناد منهم أن عليكم بالعلمانية المخففة فإنها أجدى وأنجى.

أزعم كما غيري أن أزمة الحركة الإسلامية أزمة نفسية في صميمها، وإن أخذت أبعادا وتجليات أخرى، فقد ولدت وترعرعت في كنف الجور والقهر والاستبداد، أفلا يتسرب إلى لاوعيها الجمعي نتيجة لهذه البيئة الجبرية ما سيكون مسؤولا عن تكريس دونيتها وفقدان الثقة بنفسها؛ فالحركة في بنيتها هي حشد منظم من الأفراد، وليست كيانا جامدا مستقلا. ولذلك فقد أخذت مقولتا "الاستضعاف" و " المرحلة المكية" حيزا كبيرا من وجدان الحركة الإسلامية ولم تستطع التخلص منها حتى وهي آخذة بزمام السلطة والقوة في أكثر من بلد وقطر، إلى الدرجة التي كانت فيه خيرا مثال للمقولة الشهيرة :" الطائر الذي يولد في القفص يرى الطيران جريمة".

في لحظة غليان الشارع العربي واصطفافه خلف الحركة الإسلامية وتصدع بنية الأنظمة العسكرية وجد الإسلاميون أنفسهم في موقع الحكم والسلطة مسنودين بدعم شعبي هائل. ففي مصر على سبيل المثال وصل محمد مرسي إلى الرئاسة محمولا على أكتاف الجماهير مفوضا من قبل شعب صوت للخيار الإسلامي في مناسبات كثيرة وبأغلبية ساحقة، لكن الرئيس الإسلامي وفي لحظات الحسم التي لا تتطلب منه سوى وضع توقيعه على الورق عجز عن ذلك، مع أنه لم يكن ليفعل سوى ما كفله له الدستور؛ كإقالة من له الحق في إقالته وتعيين من له الحق في تعيينه وكان المبرر هو نفسه ما ردده الرواد الأوائل وهم في زنازينهم الانفرادية " الاستضعاف " و" المرحلة المكية". وقس على تجربة الدكتور محمد مرسي جميع تجارب الإسلاميين وهم في مواقع السلطة إذ لم يكن يتغير منها إلا الوجوه، بينما الخطاب والمخرجات الكارثية هي ذاتها كل مرة.

ما يجب على الإسلاميين أن يدركوه أن " المرحلة المكية " قابعة في نفوسهم، وليست وقعا فُرض عليهم العيش في ظله، هي أزمة نفسية عبرت عن نفسها في صورة خطاب شرعي انكفائي يحضر كلما كان الإسلاميون أمام تحدي المواجهة واثبات والذات. وما أسهل أن يتقمص هذا الخطاب صيغا أخرى متنوعة من المقولات تتراوح بين المتهافتة والأشد تهافتا، كالتي ترى في وجود كيان إسلامي مؤثر ضربا من ضروب التغلب، وهو تعديل طفيف لشعار "أخونة الدولة" الذي رفعه العلمانيون ولفيف من الإسلاميين في مصر محذرين من حكم الإخوان المسلمين، ولما واتتهم الفرصة –أقصد العلمانييين- أقاموا نمط حكمهم بالحديد والنار وزجوا بالناس في السجون وقتلوا آلاف الأبرياء في الميادين، وهكذا لم يعد هناك داع لرفع شعار الأخونة في مصر، كما لن يكون هناك داع لرفع شعار التحذير من " التغلب" في سوريا عندما يتم التخلص من الكيانات الإسلامية هناك. والمثير أكثر أن الإسلاميين الذين حذروا من أخونة الدولة في مصر لم يتحرروا من حالة الاغتراب التي عاشوها عندما كانوا في مربع القوة والسلطة إلا حين كابدوا عناء المطاردة والاعتقال، فالوعي بالذات عندهم لا يتحقق إلا عندما تلفح سياط الجلاد ظهورهم، فيجدون في فقه البلاء وأدب المحنة عزاء لهم وسلوى. فالإسلامي عندهم هو تجسيد حي للمعاناة والظلم والبلاء والصبر، ولا يتصورون وجوده إلا في مواطن يكون فيه مترعا بكل ما سبق.

في سوريا كثيرا ما نسمع من جهات كثيرة أن النظام السوري تعمد إطلاق المعتقلين الإسلاميين من سجن صيدنايا بهدف ضرب الثورة السورية، وكأن النظام لم يزج بهم في سجونه إلا لأنه يهيم بهم حبا ويريد أن يستخلصهم لنفسه. وهذه المقولة تستبطن افتراضات كثيرة لا تقوم على أي أساس من الصحة والوجاهة؛ فهي أولا: تُسلم بأن الإسلاميين مكانهم الطبيعي في السجن وأنهم ثانيا: أدوات طيعة للإفساد والتخريب وثالثا: أنهم خصوم للثورة والتحرر من الاستبداد. وكلها مقولات علمانية المنبث يرددها خصوم الإسلاميين كمحاولات يائسة لاستجلاب التأييد الشعبي والدولي بعدما بارت أيديولوجياتهم وتجاوزتهم محطات التغيير ولحظاته. بعض المحسوبين على التيار الإسلامي صدقوا تلك السرديات السخيفة فنادوا إلى ضرورة تنحي الإسلاميون عن المشهد وإفساح المجال أمام المشاريع الوطنية النزيهة لتقود الشعوب والأوطان إلى شواطئ الأمن والاستقرار، في مازوخية سياسية عصية على الفهم والتفسير، إلا ما كان من أوهام الشهرة واستدارا الثناء من هذه الجهة أو تلك، وإمعانا مرضيا في تنزيه الذات من عوالق الإرهاب والتطرف.

الإسلاميون من أكثر المكونات السياسية والمجتمعية رفضا للاستبداد وأجدرها بالقيادة وأقربها إلى وجدان الشعوب، والبديل عنهم لن يكون سوى استبدادا أشنع وأطغى، أما ما يسمى بالمشاريع الوطنية والقومية فقد خبرتها الأمة لعقود ولم تجد مثيلا لها في الإجرام والإفساد وبيع الأوطان.

عقدة الدونية التي تجدرت في وعي الإسلاميين هي التي حالت بينهم وبين ترسيخ وجودهم واثبات دواتهم كأي تيار فكري سياسي يريد لأفكاره أن تنتشر وتتمكن وتتخذ شكل نظام سياسي ممأسس، وفي تاريخ الممارسة السياسية الحديثة تكاد تكون الأحزاب الإسلامية هي الوحيدة التي تتحرج من وصفها بأنها تسعى إلى السلطة فتنكر أشد النكير على من يتهما بذلك. ففي مصر رفضت جماعة الإخوان المسلمين تقديم مرشح لها في الانتخابات الرئاسية حتى تثبت للجميع أنها لا تسعى إلى السلطة، لكن الشيخ حازم أبو إسماعيل الذي رفع شعار " أدركوا اللحظة الفارقة " رأى أن على مرشح إسلامي أن يترشح ويفوز حتى يهدم ما بقي من أركان الدولة العميقة، وقدم أوراقه ترشحه للمنصب و ما لبت الإخوان أن تراجعوا عن موقفهم ودفعوا بمرشحهم لمنافسة حازم أبو إسماعيل ! 

على التيار الإسلامي أن يتحرر من عقده النفسية، وأهمها عقدة الدونية حتى ينأى بنفسه عن دائرة العبث والصفر إنجاز، وحتى لا يبقى أبد الدهر عنوانا للكرب والمحنة والبلاء، وليت البلاء ينزله به وحده بل يكون للشعوب والأوطان الحظ الأوفر منه. 









الاسمبريد إلكترونيرسالة