JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

فدائية أردوغان..درس لمن فرطوا في منجزات الشعوب


عبد الغني مزوز---

تابع العرب مجريات الانقلاب العسكري في تركيا في 15 من يوليو الجاري، حيث واكبت قناة الجزيرة –مشكورة- أطواره عبر تغطية مباشرة وضعت المشاهد العربي في صلب الحدث التركي، فكنا وكما المعنيون بالانقلاب من رموز الدولة التركية نتفاعل مع تفاصيله المتسارعة؛ فكان من الممكن سماع هدير المروحيات وطائرات الإف16 وهي تقصف أهدافها، ورشقات رصاص الاشتباكات، ومشاعرنا متأرجحة بين الانقباض والانشراح تبعا لخطورة الموقف وتضارب التصريحات بين ميل الكفة للانقلابيين حينا و ميلها لقوى الشرعية حينا آخر.

لم تخف وطأة اللحظة الفاصلة إلا عندما ظهر الرئيس أردوغان في مطار اسطنبول بين جموع المؤيدين الذين نجحوا قبل ذلك في تنظيف محيطه من دبابات الانقلابيين، فكان هذا الظهور بهذه القوة والثقة بمثابة الضربة القاضية التي عجلت بانهيار خطة الانقلاب؛ إذ فقدت أهم أركانها والشرط الأول لنجاحها وهو التخلص من الرئيس قتلا أو اعتقالا أو على الأقل إرغامه على مغادرة البلاد.

لا شك أن الرئيس أردوغان كان سيد الموقف ورجل اللحظة بامتياز، وأظهر للجميع أنه ليس من النوع الذي يسهل النيل منه مهما كانت الظروف، فقد كان بعيدا في إجازة حينما جاءته أخبار الانقلاب وسيطرة الجيش على مرافق البلاد الحيوية، وكانت المعلومات التي تصله شحيحة جدا، ولا فكرة لديه عما يجري داخل هيئة الأركان حيث يفترض أن يكون تواصله مع المؤسسة العسكرية عبرها، فهاتف رئيس الهيئة كان مغلقا، وكان مجمل الوضع مبهم لديه، إلا من بعض الإخطارات التي تصله من رئيس الاستخبارات وكان أهمهما أن عليه مغادرة مكان إقامته فورا لأن هناك أوامر باغتياله.

رغم محدودية المعلومات وخطورة وضعه وانحسار خياراته فقد كان موقف أردوغان في غاية الحسم والصرامة؛ مواجهة الانقلابيين حتى ولو كلفه ذلك حياته. فاستخدم هاتفه الشخصي كوسيلة متاحة للتواصل مع أنصاره ومؤيديه فدعاهم للنزول إلى الشوارع والسيطرة عليها، وأخبر الجميع أن الدبابات المتحركة لا تتبع الشعب التركي، وأن الانقلاب سيفشل، وسيدفع المتورطون فيه الثمن. هكذا حرص أردوغان على ضع حدود واضحة بين معسكر الانقلاب ومعسكر الشرعية، في مفاصلة حادة نأت بنفسها مند اللحظة الأولى عن اللغة الدبلوماسية المضببة حمالة الأوجه، التي يستعيرها غالبا أصحاب الأيدي المرتعشة الذين ضيعوا منجزات الشعوب تحت يافطة " الحفاظ على تماسك الدولة ومؤسساتها " و " هيبة الجيش " و " الوحدة الوطنية " و " حقن الدماء" و " المصلحة العليا للوطن" وهي العناوين التي باسمهما أُبيدت شعوب وأهدرت ثروات وتسلط مستبدون.

لأن أردوغان مثقل بأمانة الحفاظ على منجزات الشعب التركي، ويدرك أنه بصدد منعطف حاسم في تاريخ تركيا وما تمثله من نموذج أخلاقي داعم لتحرر الشعوب، وملاذ للمستضعفين في الأرض، ولأنه يدرك تماما أن من يقف خلف الانقلاب هم طغمة من أعداء الأمة وخصوم هويتها، ولأنه رجل مبدأي وقناعاته راسخة، فقد قرر خوض التحدي وتصدر معركة الدفاع عن الشعب وهويته، وإن كانت معركة غير متكافئة حيث وضع الانقلابيون يدهم على أقوى مؤسسات البلاد (المؤسسة العسكرية). هنا سيُقدم الرئيس على العملية الفدائية الشجاعة التي أجهضت الانقلاب وفككت منظومته، فقد استقل طائرته متجها إلى مطار اسطنبول في رحلة أعلن عنها مسبقا وفي الوقت الذي بدا الوضع فيه يسير فعلا لصالح الانقلابيين، وكانت الأجواء تحت سيطرتهم والمروحيات وطائرات الإف 16 تتربص بأي إشارة عن مكان تواجد الرئيس لاغتياله دون تردد. دار حديث بن أردوغان وربان الطائرة الذي واجه مشاكل في الهبوط بسبب عرقلة الانقلابيين له، وكانت اقتراحاته للربان تنطوي على مخاطر كبيرة، فالرئيس مصمم على الهبوط في المطار ومخاطبة الشعب مباشرة حتى و الدبابات مازالت رابضة في محيطه، وقد تم له ذلك، إذ خرج الرئيس وسط جموع المتظاهرين الغاضبين وجدد وعيده للانقلابيين، لتتوالى الأحداث مسرعة، فلم تمض سوى ساعات حتى استتب الأمر للشرعية وانطلق مسلسل تطهير البلاد من رجس الخونة والمتآمرين.

لعل في قصة أردوغان مع الانقلاب أبلغ درس لمن ولي أمر شعب أو ثورة أو أؤتمن على منجز أو شرعية. مع الأسف أن ملحمة أردوغان لم تحدث إلا بعد أن وقع الفأس في الرأس كما يقال، حيث ضاعت ثورات وأهدرت منجزات ببلاهة صارخة وتواطؤ أحيانا ممن وكلتهم الشعوب للدفاع عن حريتها و استقلالها وثوراتها، فعاد الاستبداد وعاد خصوم الهوية وأوصياء العلمانية الاستئصالية. لقد عرى مشهد عودة الثورات المضادة أولئك الذين بنو شرعيتهم السياسية على سردية الدفاع عن الإسلام والشورى والحرية، حينما سلموا بمنتهى البرودة منجزات الشعوب إلى طغمة العسكر وفلول الاستبداد.

اختار الشعب حركة النهضة في تونس ومنحها ثقته، وائتمنها ثورته وحريته، وكان ظنه بها أن تدافع عنه وعن منجزه الثوري حتى يستوي بنيان البلاد على قواعد من الثورة والشورى والحرية، وجدير بها ذلك فقد مسها نار الاستبداد حينا من الدهر، لكن الواقع غير ذلك، النهضة رضخت لضغوط قوى الرجعية والثورة المضادة، وليست بتلك الضغوط التي تستوجب ذلك الكم المهول من التنازلات، حتى ولو كانت ؛ فلم ير أحد من النهضة مظهرا من مظاهر الرفض والممانعة، لا النهضويون نزلوا إلى الشوارع ولا لغة رموزهم تشي بنوع من التحدي، ونية في عدم تسليم الثورة، ولا هم أطلعوا الشعب على حقيقة ما يجري حتى يتسنى له التحرك و المبادرة إلى صيانة ثورته بنفسه كما صنعها بنفسه، بل خدروا الشعب بزخم لغوي مبتدل، يستلهم مفرداته من ذلك القاموس الكلاسيكي الذي تخلف ضمن ما تخلف من ركام الأنظمة البائدة المكنوسة. (الوحدة الوطنية؛ المصلحة العليا للوطن؛ الحفاظ على مؤسسات الدولة؛ التوحد ضد الإرهاب؛ هيبة الدولة..).

حينما تكون شغوفا بالسلطة والمنصب والكسب الحزبي، يهون عندك ما سوى ذلك، قد تزهد في المبدأ والقناعة وحتى الشرف والكرامة، لتحافظ على مكاسب حزبية متوهمة، و قد تتحالف مع الشر والفساد واللصوص وعصابات النهب فقط من أجل تحصين موقعك في السلطة، ولتذهب إرادة الشعب وحريته وثورته إلى الجحيم. بحسرة بالغة كتب الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي نحوا من هذا عن النهضة شريكته السابقة في الحكم.

يجادل البعض أن الاستماتة في الدفاع عن الشعب وخياراته كما فعل أردوغان هو في حقيقته نزوع مبطن نحو الدكتاتورية وأن رفض ترك الحكم في خضم ما يحدق بالبلاد من مخاطر؛ انتصار لغواية السلطة على حساب مصلحة الوطن، وهذه بالتأكيد مغالطة فجة؛ فالذي يضع نفسه على حافة الموت و الهلاك ويُعرض أنصاره وقواعده للتفكك والاندثار ليس طالب حكم وسلطة، كيف يفعل ذلك وبإمكانه تأبيد نفسه في الحكم لو قدم قليلا من التنازلات. هل كان أردوغان مفتونا بالسلطة عندما استقل طائرته في أجواء محفوفة بالموت شبه المحقق !؟ أم تأبط كفنه واستعد لكل السيناريوهات الممكنة، وأقربها آنئذ أن يُغتال أو يُؤسر دفاعا عن كرامته وهوية شعبه. هل كان الرئيس محمد مرسي مفتونا بالسلطة عندما استمر في رفض الانقلاب حتى هذه اللحظة، و مشانق الإعدام تلوح غير بعيدة، هل سيحدث له ما حدث لو قبل بالاستفتاء والانتخابات المبكرة، وقدم مزيدا من التنازلات، كلا، كان سيبقى في موقعه رئيسا، أو على الأقل محافظا على مكاسب حزبه استعدادا لجولات أخرى، على حساب ثورة شعبه وحريته واستقلاله. صدام كذلك لم يكن مفتونا بالسلطة وإلا لبقي فيها لو قدم أدنى تنازل، غير أنه فضل منصة الإعدام مقسما آخر كلامه بين شتم الخونة والاستهزاء بهم وبين النطق بالشهادة. الملا عمر أيضا لم يكن واقعا تحت أسر غواية السلطة عندما دخل حربا غير متكافئة ضد الإمبريالية دفاعا عن سيادة بلاده، وكان يمكنه البقاء على رأس إمارته لو أبدى شيء من المرونة مع مطالب " المجتمع الدولي ".

ما أحوج النهضة في تونس إلى الدرس الأردوغاني، والطريف أن هذا الأخير أعلن مرة أنه متأثر بكتابات راشد الغنوشي، وهذه إشكالية النخب السياسية في فضائنا العربي، خطابها الفكري والنظري شيء وممارستها السياسية شيء آخر، مؤتمراتها الانتخابية ومهرجاناتها الشعبية شيء وسلوكها السياسي شيء آخر، فتختلف لحظة السلطة عن لحظة ما قبل السلطة، وما يُقال في اللحظة الأولى توقع أن يكون مناقضا تماما مع ما سيُقال في اللحظة الثانية، فلسلطة منطقها وشروطها، وخطابها يجب ما قبله وينسخ ما سبقه. 

إذن، جدير بمن بقي قابضا على جمر الثورة أن يستحضر الملحمة الأردوغانية، وكيف ظل وفيا لشعبه ومبادئه وهويته ومنجزاته في أصعب اللحظات، وأخطرها على حياته، وكيف تحلى بالشجاعة وأكد المفاصلة، فاللحظات الفارقة لا تقودها الأيدي المرتعشة و خطابات الاستكانة، وبرقيات الاستجداء، وحري بأردوغان وأمثاله أن يقودوا الشعوب ويدافعوا عن تحرر الأمم، ويجعلوا من بلدانهم مأوى للمستضعفين، ومهوى أفئدة الأحرار.



الاسمبريد إلكترونيرسالة