في فبراير 2005 وبعد ساعات من الإعلان عن مقتل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وفي أجواء من الصدمة والذهول بثت قنوات تلفزيونية شريطا مرئيا يظهر فيه شاب يدعى أحمد أبوعدس، زعم أنه الانتحاري الذي فجر الشاحنة المفخخة في موكب الحريري، وأنه ينتمي إلى جماعة جهادية تسمى " جماعة النصرة والجهاد في بلاد الشام".
العقول المدبرة للعملية -وكما كشفت التحقيقات المعمقة فيما بعد- حرصوا على ربط كل تفصيلة في العملية، بمدينة طرابلس، الحاضنة السنية الأكبر في لبنان، كبطائق الهاتف، والانتحاري المفترض، والشاحنة المفخخة.. ولأنه لا وجود لجريمة كاملة، فسرعان ما تداعى المخطط، وظهرت مؤامرة توظيف جماعة جهادية وهمية للتغطية على جريمة سياسية هزت العالم.
يبدو فيما تظافر من مؤشرات وأدلة أن "تنظيم أنصار السنة" الذي ظهر في سوريا بداية العام الجاري، يراد له أن يؤدي وظائف معينة، ويجر الأوضاع في سوريا إلى مربعات محددة، وهو -كما سنوضح في هذا التقرير- تنظيم رقمي بحت، بلا امتداد ميداني، بل قد يكون الفريق المسير لحساباته الرقمية خارج الأراضي السورية.
الخطاب الجهادي بمدارسه المتعددة ورؤاه المتناقضة تمت بلورته على مدار العقود الماضية، وهو خطاب مغلق من حيث اللغة والمفاهيم النظرية والشرعية التي يستخدمها، وتكمن فرادته في التزامه الصارم بهذه اللغة وهذه المفاهيم، وهي التي تشكل في النهاية أصالته وهويته المميزة، وبالتالي من المرجح أن تنكشف أي محاولة انتحال لهويته من طرف جهات خارج التيار الجهادي أو غير متمرسة في التعامل مع الأدبيات الجهادية، تماما مثلما يكشف خط رفيع طائش، أو لطخة حبر دقيقة، أو تدرج لوني غير محسوب بعناية، زيف عملة ورقية تبدو بالعين المجردة في منتهى الكمال.
ما هو تنظيم سرايا أنصار السنة؟
ظهر اسم تنظيم سرايا أنصار السنة على مواقع التواصل الاجتماعي نهاية يناير 2025، واستهل أول بيان له بإعلان مسؤوليته عن مقتل أكثر 12 شخصا في قرية أرزة بريف حماة، بدعوى أنهم من " الطائفة النصيرية" التي أعلن الحرب عليها بسبب ما اعتبره في بيان له "الفساد الحاصل والتسامح المبالغ فيه مع النصيرية والروافض الذين قتلوا نساءنا وأطفالنا وهدموا بيوتنا". ثم تواتر تبنيه لعشرات العمليات التي استهدفت العلويون في مختلف المحافظات السورية، ليصل نشاطه إلى ذروته خلال أحداث الساحل التي اندلعت في آذار/ مارس الماضي، إذ أعلن التنظيم مسؤوليته عن عدد كبير من عمليات القتل والتصفية الميدانية لمدنيين في الساحل السوري.
وفي الخامس من آذار/ مارس أيضا أعلن التنظيم تبنيه لحريق شب في غابات اللاذقية، ثم دأب على مدار الأشهر اللاحقة على تبني كل الحرائق التي شهدتها غابات الساحل السوري، بينها حريق غابات القسطل بريف اللاذقية الذي تبناه في بيان نشره في 5 من تموز/يوليو الماضي.
الحدث التي حول الأنظار إلى التنظيم المجهول، ووضعه تحت مجهر البحث والتقصي كان تبنيه للهجوم الانتحاري الذي استهدف كنيسة مار إلياس في دمشق في 22 من حزيران/ يونيو 2025 وأسفر عن مقتل وجرح العشرات. التنظيم أعلن في بيان له أن منفذ الهجوم يدعى "محمد زين العابدين أبو عثمان"، وقد نفذه "بعد استفزازٍ من نصارى دمشق في حق الدعوة وأهل الملَّة، استفزاز جاوز التلميح إلى التصريح، وتعدَّى الهزل إلى الجد، تطاولوا فيه على أصول الدعوة، وأهدروا حرمة الملَّة، فاستبدلوا شكر النعمة بجحودها" حسب تعبير البيان.
وبعد العملية أصدر التنظيم حصاد عملياته خلال شهر يونيو/ حزيران مشيرا إلى أن حصيلة ضحايا نشاطاته الأمنية قد بلغت أكثر من 103 شخصا في 5 محافظات هي: دمشق وحلب وطرطوس واللاذقية وحمص.
البنية التنظيمية للسرايا
يكتنف الغموض طبيعة البنية الهيكلية للتنظيم، ومؤسساته الداخلية، وهوية قادته، لكن ومن خلال عدد من البيانات والاحاطات التي نشرها نفهم أن التنظيم يريد أن يقدم نفسه كجماعة كبيرة، ذات بنية تنظيمية متشعبة، وهي كالتالي:
الأمير العام: أبو عائشة الشامي
المفتي والإداري العام للجناح الشرعي: أبو الفتح الشامي، ويزعم أنه يحمل درجة الدكتوراه، وعمل أستاذا جامعيا وناشطا في هيئات علمية عالمية. وأبو سفيان الدمشقي عضوا في اللجنة الشرعية.
أبو محمد القرشي: أميرا للجناح الإعلامي، وأبو خالد المخزومي نائبا له.
أبو عبد الرحمن الحموي: إداريا في الجناح الإعلامي.
أبو معاوية القرشي: أميرا على غرفة عمليات حلب، وأبو خطاب الحندراتي نائبا له.
أبو حمزة السوري: أميرا لغرفة عمليات اللاذقية وحماة.
أبو عبد العزيز المصري: أميرا لغرفة عمليات محافظة دمشق وأريافها
وأعلن التنظيم أن مؤسسة العاديات الإعلامية، ومؤسسة دابق وصحيفة الشام بمثابة النوافذ الإعلامية الرسمية التابعة له، بينما اختار أن تكون مؤسسة اليقين مخصصة لنشر ما يصدر عن القسم الشرعي للجماعة.
يقول التنظيم إنه يعتمد أسلوب اللامركزية في فعالياته الميدانية، ويتخذ من تكتيك الذئاب المنفردة وسيلة للمواجهة، دون أن تكون له مقرات أو نقاط تمركز، أو معسكرات معروفة، لكنه يؤكد أن أفراده يتحركون على امتداد الخريطة السورية، وينفذون عملياتهم في كافة المحافظات.
في 20 من مايو /أيار 2025 أعلن التنظيم تعليق الإعلام العسكري، وعدم تبني العمليات، مع "استمرارية عمل الإعلام والبيان الشرعي". وهو ما لم يلتزم به التنظيم.
يزعم التنظيم أن له وجودا في مدينة طرابلس شمال لبنان، ونشر بيانا بخصوص ذلك بعنوان:" بشائر التمكين في طرابلس الشام"، كما بث بعض المنشورات عبر قناة على تطبيق التيليجرام تحمل عنوان "خلايا سرايا أنصار السنة في لبنان".
البنية الأيديولوجية
شرح التنظيم بشكل مستفيض كل ما يتعلق باختياراته العقدية والايديولوجية، وتفرغ أحد كوادره "أبو الفتح الشامي" لتفصيل مواقفه من مختلف القضايا الشرعية والسياسية.
يُكفر التنظيم الحكومة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، ويصنفها ضمن "الطوائف الممتنعة بشوكة". وسرد ما اعتبره 100 سبب سوغت تكفيره لأحمد الشرع منها: " التشريع من دون الله، ودستور من صنعة البشر؛ والتسوية بين الأديان؛ وإلغاء الجهاد؛ وجعل الوطن مسرحًا للزنادقة والمرتدِّين؛ ومظاهرة الكفَّار ومعاونتهم على المُجاهِدين المسلمين؛ واعتقال الدعاة والمُجاهدين؛ وإبرام تسويات الوضع مع مجرمي النظام النصيريِّ، بصفقات مشبوهة مفضوحة؛ وتأصيل فقه الواقع على حساب فقه الشريعة، حتى صار الشرع تابعًا للواقع.." وخلص من كل ذلك إلى أن " الطَّاغوت الجولاني كافر بنص التنزيل، وبإجماع الأوائل والأواخر من أهل التأصيل، وهذا دستوره وحُكمه خير شاهد ودليل".
كما أعلن التنظيم رفضه لمضامين الإعلان الدستوري، ورد عليها في منشور طويل على منصاته الرسمية، لا سيما المواد التي تشير إلى حرية المعتقد ومساواة المواطنين أمام القانون، والتعايش السلمي بينهم، واعتبر ذلك:" إقرارا بحرية الكفر؛ أي أن للعبد أن يختار دينه كما يشاء، ويبدل ربه إذا شاء، وهذا رد لصريح القرآن" و " هدم لعقيدة الولاء والبراء" و " التسوية بين دين الإسلام وأديان الكفر وتعطيلا لحد الردة".
كما اعتبر التنظيم الأراضي السورية داخلة في جملة ديار الكفر، وأن "إدلب وسائر المناطق التي تخضع لحكم الجولاني وزمرته اللئام، ليست بدار عهد ولا إسلام، بل هي دار تعطيلٍ وتبديل، ونقض للشرع المنزل الجليل، يُقدَّم فيها رضا الغرب، ويؤخَّر فيها غضب الرب".
يعتنق التنظيم القناعات التكفيرية ذاتها التي تبناها تنظيم داعش، ومضى بعيدا في مواقفه المتطرفة بتأصيله لفكرة "السبي"، إذ صنف نساء "المحاربين والمرتدين"، إلى صنفين: "المرتدَّة المقدور عليها في دار الإسلام، وبين المرتدَّة الممتنعة التي احتمت براية الخصام، فالأولى تُقتل حدًّا والثانية تعامل معاملة السبي".
بعد هذا الاستعراض المجمل لملامح تنظيم سرايا أنصار السنة، ومحاولة رسم صورة له كما يريدها هو أن تكون، معتمدين في ذلك حصرا على ما ينشره عن نفسه في منصاته الرسمية، نطرح السؤال الأهم؛ هل يوجد حقا في سوريا هذا التنظيم أم أنه مجرد معرفات وحسابات رقمية تروج لتنظيم وهمي لا وجود له على أرض الواقع؟
تحديث التنظيم!
ظهرت أولى بيانات التنظيم في أواخر يناير 2025 وأول ملاحظة يمكن تسجيلها عنها أنها بيانات مكتوبة بلغة ركيكة، وغاصة بالأخطاء اللغوية، وتستخدم صياغات وتعبيرات لا يستخدمها الجهاديون عادة، وتدل بشكل واضح على أن كاتبها غير ملم بأدبيات الخطاب الجهادي. وستظل هذه السمة تميز كل البيانات الصادرة عن التنظيم، فقد تعهد على سبيل المثال في أحد بياناته على "الاستمرار في تنفيذ مخططه الديمغرافي" تعليقا منه على العمليات التي تستهدف العلويين. وبأنه سيعمل على "تهجير أكبر عدد ممكن من الطائفة النصيرية ليحل مكانهم أتباع أهل السنّة والجماعة الحقيقيين وليس المتلونين"، وكلها تعبيرات غير شائعة في قاموس الجهاديين. أو مثل إعلانه عن "15 عملية إعدام لنصيرية عشوائيين في قرية قرفيص"، والجماعات الجهادية لا تستخدم مفردة "إعدام" في توصيف عمليات القتل التي تنفذها.
ومثل ذلك البيان الذي أصدره التنظيم في 26 مارس/آذار 2025 وفيه أن " إدارة جماعة سرايا أنصار السنة قررت تعيين الأخ أبو حمزة السوري أميرا على غرفة عمليات محافظتي اللاذقية وحماة" ولأول مرة في تاريخ الجماعات الجهادية يتم وصف قيادتها العليا "بالادارة"، والدارج في لغة الجهاديين أن يتم وصفها "بالقيادة" أو "القيادة العامة" أو "إمارة الجماعة" أو "مجلس الشورى"، أما مفردة "الإدارة" فتستخدم في وصف المؤسسات الأخرى دون القيادة العامة، مثل "مكتب إدارة الولايات البعيدة" أو "إدارة شؤون المخيمات" بالنسبة لتنظيم الدولة الإسلامية.
وفي بيان آخر للتنظيم أعلن عن "تعيين أبو معاوية القرشي أميرا على غرفة عمليات حلب مكافأة على قيامه بالتخطيط لاغتيال المجرمين؛ دياب مشاعل ورعد مشاعل.. وتعيين أبو خطاب الحندراتي مساعدا له؛ مكافأة له على قيامه بتنفيذ هذه العملية". وكل من له اطلاع على أدبيات الجهاديين، وتابع إصداراتهم وبياناتهم، سيستغرب كيف يقوم تنظيم جهادي بتوزيع المناصب علانية على عناصره مكافأة لهم على التخطيط وتنفيذ العمليات.
ملاحظة أخرى في بيانات التنظيم وهي أنها تفتقر إلى الاحترافية على مستوى التصميم والإخراج واللغة البصرية، وهو الجانب الذي تبرع فيه الجماعات الجهادية عادة، وتوليه أهمية خاصة. فبعض بياناته تحاول تقليد الهوية البصرية لبيانات القيادة العامة لتنظيم القاعدة التي تنشرها مؤسسة السحاب، وبعضها يحاول تقليد البيانات الداخلية لهيئة تحرير الشام، وأخرى تحاول تقليد بيانات وكالة أعماق التابعة لداعش، لاسيما تلك التي أصدرها التنظيم عبر مؤسسة دابق.
المفارقة اللافتة هنا أن هذا الجهل الواضح بأساسيات الخطاب الجهادي يحدث في بيئة غاصة بالجماعات الجهادية، وشهدت في 14 سنة الماضية عنفوانا جهاديا هائلا، ونشطت فيها على مدار سنوات مئات الجماعات الجهادية من مختلف المشارب والتوجهات، وسيطر تنظيم داعش لفترة من الزمن على مساحات شاسعة منها، وسيطرت هيئة تحرير الشام على محافظة إدلب لسنوات أيضا قبل أن تزحف إلى العاصمة دمشق، هذا الزخم الكبير خلق زمنا جهاديا مس كل مكونات الحالة السورية، حتى صار القاموس الجهادي باديا في لغة التخاطب اليومية بين السوريين بمختلف طبقاتهم وشرائحهم. فكيف عجز تنظيم نشأ في هذا الوسط عن صياغة سردية جهادية مقنعة، بل عن كتابة بيان واحد لا تطعن تلك الأخطاء النحوية والتراكيب والمفردات الغريبة في مصداقيته وأصالته؟ من هنا تستمد فرضية أن القائمين على التنظيم قد لا يوجدون في سوريا وجاهتها.
يبدو أن القائمين على التنظيم انتبهوا في لحظة ما إلى الفرق الكبير بين الخطاب الجهادي، وبين ما يروج على منصات "سرايا أنصار السنة" على الأنترنت، فحاولوا إجراء عملية تحديث وتجويد لمنشوراته ولغته المعتمدة، فقاموا فجأة بحذف كل قنواته ومنافذه الرقمية، وفتح أخرى جديدة مطلع مايو/ أيار 2025 مع إدخال فاعل جديد سيطبع معظم إصدارات التنظيم وبياناته بلغته المميزة، وهو المسؤول الشرعي أبو الفتح الشامي.
يكتب أبو الفتح الشامي بلغة مسجعة، مشحونة بالعناصر البلاغية، وإفراط في توظيف المحسنات البديعية، وقد تولى منذ ظهوره صياغة معظم البيانات التي يصدرها التنظيم، إضافة إلى اضطلاعه بمهام الإفتاء الشرعي، ومن المرجح أن يكون أبو سفيان الدمشقي المسؤول في القسم الشرعي هو نفسه أبو الفتح الشامي بسبب تشابه اللغة التي يكتبون بها.
هل يتبع أنصار السنة لتنظيم داعش؟
يرى بعض المهتمين بشأن الجماعات الإسلامية المتشددة أن جماعة سرايا أنصار السنة مجرد واجهة أخرى لتنظيم داعش في سوريا. وهي فرضية مستبعدة تماما كما سنوضح.
منذ ظهور تنظيم داعش بصيغته الأولى " دولة العراق الإسلامية" في 2006 إلى غاية الآن وهو ينهج في بعض السياقات استراتيجية التواري خلف أسماء وواجهات مختلفة، إما لدواعي أمنية أو بهدف اختراق المجتمعات والكيانات المنافسة دون أن يلفت الأنظار.
فجبهة النصرة قبل خلافها الشهير مع داعش في 2013 وانفصالها عنه كانت تابعة لدولة العراق الإسلامية، ولم يكن يعلم بذلك سوى أفراد قلائل من الدائرة القيادية العليا للتنظيم، و"حركة المثنى الإسلامية" التي كانت تنشط في جنوب سوريا كانت تابعة لداعش سرا، وقد اندمجت في أبريل/نيسان 2016 مع لواء شهداء اليرموك وأسسوا "جيش خالد بن الوليد" الذي ظل يحتفظ بقسط من الاستقلالية مع أنه كان مبايعا لداعش. وظل "لواء داوود" يحتفظ سرا ببيعته لداعش إلى أن انشق عن جيش الشام العامل في سرمين بريف إدلب، وتوجه إلى مناطق سيطرة تنظيم الدولة في يوليو/ تموز 2014 بعد أن قدم خدمات أمنية ولوجسية للتنظيم. وحدث الأمر ذاته مع "لواء الأقصى" الذي أخفى تبعيته لداعش، ونشط في تنفيذ عمليات أمنية ضد الفصائل الثورية في محافظة إدلب، إلى أن انكشف أمره، ودخل في قتال عنيف مع هيئة تحرير الشام في فبراير /شباط 2017 انتهى باتفاق قضى بفتح ممر آمن لوصول عناصر اللواء إلى مناطق سيطرة داعش في الرقة.
يختلف تنظيم سرايا أنصار السنة عن الجماعات التي بايعت داعش سرا في كون هذه الجماعات ناشطة فعلا في الميدان، ولها معسكرات وحواجز ومقرات معروفة، ولها مؤسسات إعلامية تنتج مواد دعائية إحترافية، وتتبنى خطابا جهاديا متشددا يروج له شرعيوها وقادتها في المجالس الخاصة، وفي والمناظرات مع الجماعات المنافسة. بينما سرايا أنصار السنة مظهر وجودها الوحيد هو نشاطها الرقمي البحت، ومجموعة من الأسماء المستعارة مجهولة الهوية.
لو كان تنظيم سرايا أنصار السنة تابعا لداعش لانتدب هذا الأخير فريقا اعلاميا لتسيير منظومته الدعائية، وهو الذي يملك رصيدا من الخبراء في مجال التصميم والاخراج والانتاج المرئي، ولظهرت اللمسة الاحترافية في مواده الإعلامية.
يشترط تنظيم داعش على كل الجماعات المرتبطة به معايير صارمة في إنتاج المواد الدعائية والإعلامية، فقد أرسل تعميما داخليا إلى المكاتب الإعلامية التابعة لفروعه في العالم بعنوان " تعميم مهم إلى جميع الإخوة المسؤولين في إعلام الولايات" تضمن معايير فنية وجمالية يجب توفرها في المواد الاعلامية قبل إرسالها للنشر، من قبيل الالتزام بالجودة العالية للصور، والتصوير من زوايا متعددة، واعتماد الهوية البصرية الموحدة، واستخدام المايك في تسجيل الصوتيات، وأي خطأ سواءا كان بسيطا أو فادحا يؤدي إلى وقف النشر حتى تتم معالجته. وبالتالي لن يقبل التنظيم أن تنتسب إليه جماعة تطغى العشوائية والركاكة في بياناتها واصداراتها.
يزعم تنظيم سرايا أنصار السنة أن لديه مجموعة من المؤسسات الإعلامية تتولى تسيير نشاطه الإعلامي، وكلها -فيما يبدو- مجرد قنوات على التيلجرام يسيرها فرد أو أكثر دون أدنى إلمام بأساسيات الصناعة الإعلامية، وهذه مسألة لافتة إذا عرفنا أن المجال التي يبرع فيها الجهاديون وأنصارهم أكثر من غيره هو المجال الإعلامي.
في الوقت الذي ينحسر فيه نفوذ تنظيم داعش في سوريا، لا يحتاج إلى جماعة تقوض ما تبقى من شرعيته وجاذبيته ببياناتها الساذجة، وتبدد رصيد الرعب والانبهار الذي راكمه بإصداراته الهوليودية المتقنة. لا شك أن رهان داعش الآن يتمثل في استيعاب العناصر الجهادية الناقمة من حكومة أحمد الشرع، وتقديم بديل لها، وبالتأكيد لن يفعل ذلك بجماعة لا يبدو أن القائمين عليها كان لهم مايكفي من التمرس والاطلاع على بديهيات الخطاب الجهادي، وتراث الجماعات المقاتلة.
عمليات التنظيم
تلقي العمليات التي يتبناها تنظيم سرايا أنصار السنة مزيدا من الشك حول مصداقيته وحقيقة وجوده، فعشرات العمليات التي تبناها لم يقدم دليلا واحدا على مسؤوليته عنها، بل نسبها إلى نفسه كما يستطيع أي حساب أو قناة مجهولة على مواقع الإجتماعي أن تفعل. لم يوثق أي واحدة منها بمقطع فيديو أو صورة، أو يبث تسجيلا للمنفذين، أو مقطعا يظهر رصدا قبليا للهدف قبل الهجوم عليه، بل لم ينشر أي صورة لفرد من أفراده المسلحين أو مجموعة منهم في مساحة مكشوفة، أو مكان مغلق كدليل بسيط على وجوده في الميدان.
تبنى التنظيم التفجير الانتحاري الذي استهدف كنيسة مار إلياس في 22 من يونيو/ حزيران 2025، بعد يومين من العملية، مع أنه علق على التفجير في قناته الرسمية في اليوم الأول، لكنه انتظر يومين ليتأكد من أن تنظيم داعش لن يتبنى العملية. لقد أظهرت تحقيقات وزارة الداخلية المبنية على اعترافات أفراد الخلية التي تم توقيفها في اليوم التالي للعملية، أن الأمر يتعلق بخلية تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، وحسب إحاطة الناطق باسم وزارة الداخلية السورية نور الدين البابا فإن " الخلية يتزعمها شخص سوري الجنسية، يدعى محمد عبد الإله الجميلي، ويكنى أبو عماد الجميلي، وهو من سكان منطقة الحجر الأسود في دمشق، وكان يعرف بوالي الصحراء عند داعش" أما الانتحاريان حسب البابا "فالأول الذي نفذ تفجير الكنيسة الغادر، والثاني الذي ألقي القبض عليه وهو في طريقه لتنفيذ تفجير انتحاري في مقام السيدة زينب في ريف دمشق، فقد قدما إلى دمشق من مخيم الهول، عبر البادية السورية، وتسللا بعد تحرير العاصمة، بمساعدة المدعو أبي عماد الجميلي، مستغلين حالة الفراغ الأمني بداية التحرير، وهما غير سوريين". وأكد البابا في مؤتمر صحفي أن تنظيم سرايا أنصار السنة الذي تبنى العملية وهمي لا أساس له.
أمام هذه المعطيات الدقيقة التي قطعت بانتماء الخلية رسميا لداعش، نشر التنظيم فقرة مقتضبة على قناته الرسمية جاء فيها "بعد استكمال إجراءاتنا الأمنية سننشر صورة المنفذ (أبو عثمان) عندها سننسف زعم حكومة الجولاني نسفا" مضت أسابيع ولم ينشر أي صورة أو أي دليل يثبت عكس ما أكده إعلان الداخلية.
من المعلوم أن تنظيم داعش لا يتبنى العمليات التي ينفذها في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام لسنوات مضت، فمنذ نجاح الجهاز الأمني التابع للهيئة في تفكيك "ولاية إدلب" واعتقال كبار كوادر وقادة التنظيم، أبرزهم الناطق الرسمي السابق أبو عمر المهاجر،كف التنظيم عن تبني نشاطاته في مناطق نفوذ الهيئة، وقد عللت وثيقة داخلية مسربة عن داعش هذا الإجراء بأنه إجراء أملته " اعتبارات سياسية". وآخر عملية انتحارية نفذها في مناطق سيطرة الهيئة كانت عملية اغتيال القيادي ميسرة الجبوري "أبو ماريا القحطاني" في أبريل/ نيسان 2024، ولم يعلن مسؤوليته عنها رغم أن الهيئة نجحت في اعتقال الخلية المنفذة، ومرافق الانتحاري الذي فجر نفسه في مضافة القحطاني.
العشرات من عمليات القتل التي تبناها "تنظيم سرايا أنصار السنة" كان نعي ضحايا منشور سابقا على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وأغلبها حدث خلال أحداث الساحل في مارس /آذار الماضي، أو كانت عمليات نفذها أفراد لكن التنظيم أعلن مسؤوليته عنها بعد أسابيع أو أشهر من وقوعها. ففي 29 من يونيو/ حزيران 2025 بث مقطعا مرئيا يزعم أنه لعناصره وهم يسحلون جثة رجل في أحد شوارع اللاذقية بعد اغتياله، لكن الواقع أن المقطع منشور في مواقع التواصل الاجتماعي في 8 من مارس/ آذار، أي قبل أكثر من 3 أشهر.
قبل بث هذا المقطع بيومين نشر التنظيم معرفا للتواصل على التيليجرام، وطلب إرسال المقاطع التي توثق العمليات التي تستهدف العلويين، ليتسنى له على الأرجح إعلان مسؤوليته عنها. وهو سلوك غريب لم تقم به أي جماعة جهادية من قبل، بل من النادر أن تكشف هذه الجماعات عن معرفات أو أرقام التواصل معها بشكل علني.
الحرائق التي شبت في غابات الساحل ادعى التنظيم أنه المسؤول عنها، لكنه لم يقدم دليلا على مصداقية مزاعمه، وكان بإمكانه توثيق لحظة إشعالها دون أن يشكل ذلك خطرا أمنيا على المنفذين، فالأمر يتعلق بمساحات غابوية غير مرصودة لا بالكاميرات ولا نقاط التفتيش. إذا كان الحس الأمني العالي هو الذي منع التنظيم من توثيق عملياته أو تصوير عناصره، فلماذا وضع عددا من معرفات التواصل مع قياداته المفترضة، مع ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر أمنية عالية.
ذهب التنظيم بعيدا في تضخيم قدراته العملياتية وحضوره الميداني في سوريا فأعلن في 29 من مايو /أيار 2025 عن تنفيذ هجوم سيبراني استهدف حواسيب وهواتف أكثر من خمسة آلاف علوي، وأسفر الهجوم حسب بيانه عن "جمع معلومات و ملفات من صور و فيديوهات و حسابات و أرقام و محادثات وجهات اتصال لأكثر من خمسة آلاف نصيري و نصيرية" وأضاف أن المستهدفين هم "العاملين في صفحات حقوق الإنسان" و" شخصيات تعاملت مع النظام البائد" و "أشخاص نصيرية من مختلف الطبقات" وزعم أنه بصدد إعداد بنك أهداف استنادا إلى المعطيات التي سحبها من الأجهزة المستهدفة. في الواقع يبدو أن اختراق آلاف الهواتف والحواسيب والتحكم بها وسحب المعطيات منها قد يتجاوز إمكانيات الدول ذات الميزانيات الضخمة والأدوات التقنية المتقدمة، والغريب أكثر أن التقنيات التي وظفها التنظيم في هجومه الإلكتروني المزعوم استطاعت تمييز الأجهزة "العلوية" عن غيرها، بل أمكنها تمييز الأجهزة التي تعود للعاملين في مجال حقوق الإنسان، وعناصر النظام البائد عن غيرها. حتى برنامج بيغاسوس الرائد في مجال اختراق الهواتف، قد لا يكون بكفاءة البرامج التي استخدمها التنظيم، على اعتبار أن بيغاسوس مخصص فقط لاختراق أنظمة أندرويد وايزو ولا يستطيع اختراق أنظمة التشغيل في أجهزة الكمبيوتر. ثم لماذا لا يصور التنظيم لقطة شاشة تظهر نجاحه التقني المذهل هذا؟
لماذا سرايا أنصار السنة؟
يركز تنظيم سرايا أنصار السنة في معظم منشوراته وبياناته التحريضية على الأقليات الطائفية في سوريا من علويين ودروز ومسيحيين، والعمليات التي تبناها استهدفت حصرا هذه الطوائف، مع أن الدارج في سيرة الجماعات الجهادية أنها تؤسس أجندتها الجهادية على قتال "المخالفين" أو "المحاربين" بغض النظر عن خلفياتهم الطائفية وحتى الدينية، فداعش مثلا يقاتل الأكراد والفصائل السورية وقوات النظام. وتنظيم القاعدة في العراق كان يقاتل قوات التحالف و القوات الحكومية وفصائل الشيعة وفصائل الصحوة السنية أيضا. والقاعدة في اليمن تقاتل الحوثيين، وقوات المجلس الانتقالي، والجيش اليمني.. لذلك من المثير للريبة حقا أن سرايا أنصار السنة لا يستهدف سوى الأقليات الطائفية في سوريا، لماذا؟
في الواقع لا يزال الاحتراب الطائفي الوصفة الأنجع لتفكيك المجتمعات وتقويض التجارب السياسية لاسيما الناشئة منها. يبدو أن رهان المشرفين على "سرايا أنصار السنة" قائم على تأجيج الصراعات الطائفية، وإشعار الأقليات بعدم الأمان، وتصوير الحكومة السورية الجديدة أمام المجتمع الدولي كإدارة عاجزة عن حماية مواطنيها من العنف والاضطهاد.
من بين مئات المدن والحواضر في الشرق الأوسط؛ المدينة الوحيدة التي أعلن تنظيم سرايا أنصار السنة عن وجود امتداد له فيها هي طرابلس اللبنانية. ربما يتصور المشرفون على التنظيم أن معادلة الاحتراب الطائفي في سوريا لن تكتمل دون اقحام طرابلس اللبنانية فيها، ولكي تبقى نار الصراع الطائفي مستعرة يجب أن يمتد لهيبها إلى لبنان، كما أن سرديتهم ستحظى بشيء من الوجاهة والمصداقية إذا تم تداول اسم طرابلس في سياق مفعم بالحساسيات الطائفية تماما كما ظن قتلة الحريري من قبل.
قد تنجح قنوات ومعرفات التواصل التابعة لسرايا أنصار السنة في تجنيد بعض الأفراد أو المجموعات المتطرفة داخل سوريا، وتوجيهها للقيام بعمليات إرهابية وتخريبية، لا سيما والغالب على الظن أن المتوارون خلف هذه الواجهة يملكون ما يكفي من الموارد لتمويلها، لكن ذلك لا يلغي فكرة أن "السرايا" مجرد واجهة رقمية لمشروع تخريبي يتخذ من الخطاب الجهادي وسيلة لتأجيج الاحتراب الأهلي، وإرباك مرحلة ما بعد الثامن من كانون الأول /ديسمبر 2024.