JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

الإمام البخاري ناشطا على تويتر

عبد الغني مزوز---

هل كان الخطيب البغدادي سيكتب كتابه تاريخ بغداد في 14 مجلد لو كان يملك حسابا على تويتر, هل كان جلال الدين السيوطي سيؤلف 416 مؤلفا بعضها يقع في عشرات المجلدات لو كان مدمنا على الفيسبوك, وهل كان الإمام البخاري ستسعفه همته في قطع الأمصار والقفار بحثا عن حديث واحد ليجمع كتابا بحجم صحيح البخاري لو كان اعتماده على محرك البحث غوغل أو برنامج المحادثة السكايب.

آخر الدراسات تشير إلى استحواذ مواقع التواصل الاجتماعي على الجزء الأكبر من اهتمامنا, ولا عجب إن قمنا باقتطاع جزء من الوقت الذي خصصناه للقراءة لحساب تصفح هذه المواقع, ما ذمنا لم نمانع مسبقا من تجنيد مرتباتنا ومدخرتنا لملاحقة التكنولوجيا التي تمنحنا استعمالا أفضل لهذه المواقع.

لا يستطيع أحد أن ينكر أن اهتمامنا بهذه المواقع قلص من معدل نشاطاتنا المعرفية الجادة (القراءة, الكتابة, متابعة المحاضرات, المشاركة في الدورات التكوينية) فتحولنا في عوالم هذه المواقع إلى مجرد كائنات الكترونية غايتها حصد "اللايكات" والمتابعين وعد التعليقات.

في عالمنا العربي نعاني قبل ظهور هذه المواقع وتوغلها في حياتنا من أزمة في القراءة, فمتوسط قراءة الإنسان العربي لا تتجاوز 10 دقائق في السنة مقابل 12000 دقيقة للمواطن الأوروبي, و 20 مواطنا عربيا فقط يقرؤون كتابا واحدا كل سنة في حين أن كل مواطن بريطاني يقرأ 7 كتب كل سنة أي 140 ضعف ما يقرأه المواطن العربي, أما المواطن الأمريكي فيقرأ 11 كتابا كل سنة أي 220 ضعف ما يقرأه المواطن العربي.
ومع مجيء مواقع التواصل الاجتماعي التي تستنزف الوقت حتى من الشريحة المثقفة, ستهبط الأرقام إلى معدلات كارثية, خصوصا مع احتفاء هذه المواقع بالاقتصاد اللغوي وثقافة الصورة والمشاهدة على حساب ثقافة القراءة والتحليل والاسترسال اللغوي, وهي الكفيلة بإعطاء المتلقي وجبة معرفية دسمة وغنية أما مواقع التوصل الاجتماعي فلا تعدو أن تكون وجبة فشار  لا تسمن من نحافة فكرية ولا تغني من جوع معرفي.

بعض الكتاب الكبار الذين ابتلينا بمقالاتهم حتى أدمناها, فكنا ننتظر نزولها في مواقعهم أو مدوناتهم أو المنتديات التي اعتادوا الكتابة فيها بكل شوق, أصيبوا أيضا مع الأسف الشديد بعدوى الفيسبوك وتويتر, فبتنا الآن نحصل على مقالاتهم بالتقسيط وعلى دفعات كل دفعة لا تتعدى حمولتها 140 حرفا وهي القدرة الاستيعابية القصوى للتغريدة, وبعض هؤلاء الكتاب لا يتورع في إغلاق موقعه أو مدونته ويضع على صفحتها الرئيسية بلاغا يعلن فيه أنه ترك الموقع أو المدونة وانحاز إلى جبهة تويتر ليغرد مع السرب, فيبقى موقعه محنطا نادرا ما يضع به مقالا وان وضعه بالسهولة ستكتشف أنه مطبوخ على عجل لأن المقال المطول حسب اعتقاده أصبح موضة بالية في عصر القارئ الملول.

جميل جدا أن يمتلك الكاتب حسابا على أحد هذه المواقع يتواصل به مع متابعيه وقراءه, ويضع فيه روابط لمقالاته لتصل إلى أكبر عدد من المهتمين, ويضع فيه مواعيد لإصداراته اللاحقة, ويستشف من خلاله نبض متابعيه ودرجة تفاعلهم مع ما يكتبه, أما أن يذوب الكاتب في هذه المواقع ويتحول إلى كائن فيسبوكي أو تويتري, يجري عليه ما يجري على سائر رعايا مملكة الفيسبوك, ولا تكاد تجد له مادة جادة كتبها باستثناء نسخ الأخبار والصور إلى حسابه, أو تهميش الكتابة في المواضيع الفكرية والسياسية العميقة والجادة بحجة أن قارئ الانترنت يميل إلى " الفرفشة" و" السواليف" فهذا ما لا يجب أن يحصل.

الدراسات أظهرت أن أكثر المواقع زيارة في الوطن العربي هي مواقع الجنس والتواصل الاجتماعي, بينما في بعض الدول الغربية ومنها إسرائيل يتبوأ موقع ناشيونال جيوغرافك الصدارة من حيث الزوار والمتابعة, ومن أكثر الكلمات بحثا عبر محرك البحث غوغل كلمة " الجنس" و " أهداف ميسي" و " كريستيانو رونالدو", أليس هذا مما تدق له أجراس الخطر ونحن أمة تعيش في غمار تحديات حضارية بل تحديات وجودية علينا أن نخرج منها منتصرين, من قبل هالنا أن أكثر الكتب مبيعا في العالم العربي كتب الطبخ وتفسير الأحلام وقد نتفهم هذا الميول لأن برنامجنا اليومي مقسوم مناصفة بين الأكل والنوم, لكن كيف نفهم اهتمامنا بالجنس وبأهداف ميسي وكريستيانو رونالدو ما هو السياق المنطقي الذي يستوعب هذه الاهتمامات الغريبة.

بعض الناس يتحرج من نقد مواقع التواصل الاجتماعي  بسبب ارتباطها بالثورة العربية حتى نسبت هذه الثورات المجيدة إليها فسميت بثورات الفيسبوك, وهذا تجني وتعسف بحق الشعوب وتضحياتها, لأن الثورات ستحدث برضا زوكربورغ أو بعدمه, فالبلاشفة ثاروا قبل ولادة زوكربورغ بعقود, وكل شعوب الأرض أنجزت ثوراتها وخاضت حروب تحررها دون أن يكون لها حساب لا على فيسبوك ولا على غير فيسبوك.

قد لا نستطيع أن ننكر جميل هذه المواقع, لكن في نفس الوقت علينا أن لا ننسى إثمها و إثمها أكبر من نفعها, فإضافة إلى بعدها التجسسي الواضح كما أعلن ذلك جوليان اسانج مؤسس موقع ويكلكس, فان سياستها منحازة كليا إلى قوى الاستكبار العالمي, وهي لا تكف عن إغلاق حسابات الثوار وحذف منشوراتهم والتضييق على نشاطاتهم, إلى غيرها من الإجراءات التي تتخذها بناء على تعليمات وتوصيات من بعض الجهات الاستخباراتية المعروفة. 

قرأت قبل أيام لكاتب مازال وفيا لمدونته ولمقالاته الفكرية العميقة, أن استراتيجيته مع مواقع التواصل الاجتماعي تتلخص في استعمالها في أوقات عدم التركيز يعني في الأوقات التي لا يكون فيها الدهن متيقظا, والهمة عالية والمعنويات مرتفعة, وهذه استراتيجية ممتازة جدا و تحد من الآثار السلبية لهذه المواقع.

وجوابا على الأسئلة التي استهللنا بها هذه المقالة فان الخطيب البغدادي لو كان مدمنا على الفيسبوك لكان كل ما سيقدمه لنا عن تاريخ بغداد عوض عن 14 مجدا هو صفحة واحدة بعنوان " دردشة في تاريخ بغداد", أما الإمام البخاري فعوضا عن صحيحه النفيس فانه سيقدم تغريدات من 140 حرفا مختومة بهاشتاق ?غرد_بحديث_صحيح. وطبعا الهاشتاق سيكون مخنوقا بتغريدات الوضاع وسيئي الحفظ والنية.
الاسمبريد إلكترونيرسالة