JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

دماء السلفيين قربان لمعبد صندوق النقد الدولي

عبد الغني مزوز---


لم يكن احد يتوقع أن تتحول تونس قلعة العلمانية العتيدة إلى منبت خصب لنمو تيار إسلامي راديكالي, لا يرضى بأنصاف الحلول ولا يهمه الالتقاء مع أحد في منتصف الطريق, طارحا نفسه كحائط صد في وجه التيارات المدنية الموغلة في  اللائكية ومعاداة الدين.ولم يكن الظهور "الانفجاري الفجائي" لهذا الفصيل الإسلامي الشبابي الفتي إلا نتيجة منطقية و"فيزيائية" لحالة الكبت والقمع الرهيبين التي تعرض لها في حقبة بورقيبة وبن علي موازاة مع ما تعرضت له باقي المكونات الإسلامية الأخرى من تنكيل وحصار بما فيها تلك التي لم يكن لها من الدين إلا الشعائر التعبدية العادية كالصلاة والحج واللحية والحجاب...

بعد الثورة تحولت تونس إلى محج للدعاة والعلماء والمفكرين ومختلف رموز الحركات الإسلامية, كما لو أنهم بذلك يحاولون إعادة ربط تونس بالوجدان الإسلامي وإيصال ما انقطع بينها وبينهم, وتدشين عودتها إلى عمقها الحضاري والتاريخي, وهي الخارجة لتوها من سراديب العلمانية الظلامية. وهو ما عبر عنه الداعية المغربي محمد الفيزازي في احد المهرجانات الخطابية بتونس بعد الثورة بشهور عندما قال والدموع تخنق عباراته بأنه قبل الثورة عندما ينظر إلى خريطة العالم الإسلامي كان لا ينظر إلى تونس كجزء من ذلك العالم.


حاول العالم وقوى النظام الدولي إفشال مسار الثورة التونسية والقضاء على أية محاولة لاستنقاذ تونس من أتون العلمانية وتبويئها مكانتها الصحيحة بما يتناسب وهويتها ودينها وتاريخها, وذلك عبر الدفع برموز لائكية فلولية هرمة تجاوزت عمرها الافتراضي وانتهت مدة صلاحيتها إلى واجهة المشهد السياسي وتمكينها من أدوات العمل والتأثير والبلطجة كالدعم المادي ووسائل الإعلام وغيرها. وعبر -أيضا- اللعب على المكون السلفي داخل تونس من خلال ابتزازه ومنعه من العمل السلمي, وجره إلى مواجهات مع قوى الأمن والجيش بدس بعض العناصر في صفوفه خصوصا في مهرجاناته أو ملتقياته أو مظاهراته السلمية. وهو التيار الذي يعلن دوما في مختلف المناسبات أن أجندته سلمية دعوية خيرية.

هناك إرادة دولية وإقليمية تسعى للقضاء على هذا التيار من خلال العمل على محورين أساسين الأول يتمثل في التشويه الإعلامي الممنهج بواسطة البرامج والقنوات والمؤسسات الإعلامية التي تعمل بجد منقطع النظير من اجل إلحاق كل نقيصة وكل جريمة بالعناصر السلفية والخطير في الأمر أن بعض الصحف والمؤسسات الإعلامية العربية المعروفة بشيء من النزاهة تعيد نشر تلك الافتراءات دون مراعاة لأبسط أبجديات صياغة الأخبار والتقارير الصحفية والتي تقتضي الاستماع ونقل إفادة جميع المعنيين. ويندرج في سياق هذا التشويه الإعلامي ما تداولته وسائل الإعلام في الأيام الماضية من قيام سلفيين بإرسال فتيات تونسيات إلى سوريا للمشاركة في الثورة من خلال الترويح على المقاتلين هناك وتقديم خدمات جنسية لهم في إطار ما سمي بجهاد المناكحة الذي أفتى به الداعية السعودي محمد العريفي, مع أن فتوى العريفي المزعومة تبين أنها فتوى مفبركة ويسع أي غبي في مجال المعلوميات والفوطوشوب أن يكتشف ذلك ببساطة شديدة, هذا دون أن نشير إلى أن العريفي نفسه نفى الفتوى في عدة مناسبات, ومع ذلك لا تزال صحيفة بحجم القدس العربي تعيد نشر الفتوى بنسختها العراقية في صدر صفحتها الأولى.

المحور الثاني هو محور الاستدراج و المواجهة و الحصار والتصفية الجسدية ولعل ما يحدث في جبال الشعانبي ليس سوى جانب من جوانب هذا التوجه الاستأصالي, فعلى مدى أيام من المواجهة مع أشباح جبال الشعانبي لم يظهر إلى وسائل الإعلامي أي مؤشر يدل على أن الجيش التونسي يقاتل بالفعل مجموعات إرهابية حقيقية من لحم ودم فلم تعرض جثث ولا أوراق ثبوتية ولا أي دليل يوحي بأن هناك معركة ما تخاض هناك, كل ما عرض في هذا الصدد هو صور لمجموعة من رجال الجيش مبتوري الأطراف السفلى نتيجة ألغام زرعها إرهابيون لعرقلة تقدم الجيش إلى معاقلهم, وهذه المزاعم لا يمكن لأي باحث ولا صحفي محايد أن يصدقها ويأخذ بها على عواهنها, أولا لأن أي خبير في شؤون الجماعات الإسلامية المسلحة سيتأكد أن هذه الجماعات لم يسبق لها مطلقا أن استخدمت الألغام المضادة للأفراد في أي من معاركها ولعل ذلك راجع إلى تحفظات فقهية على هذا النوع من الأسلحة لأن هذه الألغام قد يسقط ضحيتها من لا يجوز أديته و إصابته, إضافة إلى أن تقارير صحفية تحدثت عن أن المناطق التي انفجرت فيها تلك الألغام سبق لقوى الجيش أن مرت بها ومشطتها, ما يوحي بأن عملية زرع الألغام قد يقف خلفها عناصر أمنية لأغراض لا تخفى.

 ما يحدث في جبال الشعانبي قد يكون مجرد مصيدة لاجتذاب العناصر السلفية أو على الأقل جعلهم يصرحون بوقوفهم وولائهم للمجموعات المسلحة هناك من أجل تأليب الرأي العام على المكون السلفي وتهيئة الرأي العام لتقبل ما سيتخذ ضده من إجراءات.
معارك الشعانبي وحادثة اغتيال المعارض شكري بلعيد والمواجهات المتكررة مع التيار السلفي ومنع تجمعاته وملتقياته واستفزازه بطرق في بعض الأحيان لا يمكن أن توصف إلا بالصبيانية كل هذا لا يمكن فهمه إلا في سياق الاستعداد لقلب الطاولة على هذا المكون الإسلامي وإرهاقه وإرغامه على الجنوح للعنف ليتأتى بعد ذلك تصفيته بضربة واحدة قاضية, وإلا فما معنى إرسال فتاة تونسية وناشطة في منظمة "فيمن" للتعري إلى مدينة القيروان حيث كان السلفيون يعتزمون إقامة ملتقى لهم هناك وكتابة اسم منظمتها في جدار مسجد عقبة ابن نافع الكبير أليس هذا قمة في الاستفزاز.

هذا الحصار للمكون السلفي وخنقه بمجموعة من الإجراءات الأمنية والمعالجات الإعلامية الكيدية, تبين أخيرا أن قسطا منها جاء استجابة لتوصية صندوق النقد الدولي الذي اشترط إنهاء التواجد السلفي بتونس كشرط أساسي للحصول على قرض من البنك, هذا التدخل الفج في شؤون تونس والاستجابة غير المتوقعة من قيادة حركة لنهضة لهذا الشرط, جاء على لسان أحد قياديي هذه الأخيرة ونوابها في المجلس التأسيسي عندما أعلن في جلسة عامة للمجلس عقدت يوم الخميس23 ماي بأن صندوق النقد الدولي فرض إقصاء السلفيين كشرط للحصول على القرض, وأضاف النائب صادق شورو بأن صندوق النقد الدولي عندما يضع شروطا للقرض لا يضع شروطا اقتصادية بل شروطا سياسية وثقافية, ولفت النائب المحسوب على الجناح السلفي داخل حركة النهضة إلى أن التاريخ يعيد نفسه فقد كان صندوق النقد الدولي يفرض على بن علي إقصاء النهضة للحصول على القرض والآن يفرض على النهضة إقصاء السلفيين.
إذن هنا تكمن شفرة الحل لكل أحاجي المشهد التونسي, وصاية دولية وابتزاز خطير من مؤسسة دولية سيئة السمعة, غايتها الأساسية تركيع الأمم, وامتصاص ثرواتها, وفرض شروطها الثقافية والسياسية والأيديولوجية على الأمم والشعوب.

إذن لم تكن دماء السلفيين التي أسيلت في تونس إلا قرابين على عتبات معبد يسمى صندوق النقد الدولي, ليفتح على زواره بركاته وخيراته, ويفيض عليهم بامتيازته ويزيدهم بسطة في الرزق والنفوذ. وان من الناس من يعبد الدرهم والدينار فما بالك بملايير الدولارات," تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار....الحديث
لا يجب على الدول التي تحترم نفسها وشعبها أن ترضخ لاملاءات أجنبية, خصوصا إن كانت هذه الاملاءات تمس صميم سيادتها, أو تسعى إلى بث الفرقة والتناحر والإقصاء بين مختلف شرائح ومكونات الشعب.
يقولون بأن المكون السلفي بتونس يهدد مكاسب البلاد على صعيد الحداثة وحقوق المرأة, والتأصيل الحضاري والفلسفي الصحيح لما يعتقد أنها حداثة بتونس ليس إلا انحراف قيمي واستلاب هوياتي واغتراب حاد ودكتاتورية توسلت الحداثة وحقوق المرأة والمدنية لتثبيت أركان نظام دموي تسلطي غادر, فرض على الشعب فرضا بقوة السجون والمعتقلات والملاحقات البوليسية. والحديث عن المفاهيم التي وضفتها الديكتاتورية والدفاع عنها هو عين الرجعية والتخلف والماضوية, والتشبث بمبادئ الإسلام القائمة على العدل والشورى والحاكمية واستدعائها إلى ساحة الفعل والنضال السياسي هو عين التقدم والحداثة والتحرر والانعتاق الحضاري.

ليس سليما على الإطلاق أن يتحدث الشيخ راشد الغنوشي عن قتل الشرطة التونسية لعدد من المواطنين الذين اختاروا السلفية منهجا لهم, ببرودة أعصاب وفي سياق تأكيده على أن الدولة التونسية جادة في مساعيها للقضاء على هذا التيار. راشد الغنوشي الشيخ الجليل الذي يحضى بمكانة كبيرة في قلوب الملايين, وكانت كتبه أساسا لنهضة دول ومجتمعات كتركيا, ينزلق إلى مستوى يتحدث فيه بلسان حاله أننا قتلنا من أبناءنا كذا وكذا فهل ترضون عنا.
إن عقود الديكتاتورية والعلمانية الغالية التي مرت على تونس, خلقت لدى الشعب التونسي فراغا روحيا حاد, جعلته يعود بقوة إلى التدين الذي لطالما حرم منه, لقد كانت للألوف المؤلفة من مختلف شرائح وفئات الشعب التونسي التي حضرت موعظة الشيخ محمد حسان في أحد ملاعب تونس قبل أيام دلالة بالغة في قياس مدى تعطش الشعب التونسي للعودة إلى هويته السليبة وروافدها الروحية والإيمانية التي قمعتها عقود الاستعلاء اللائكي البغيض.

إذن يجب أن يعاد النظر في مشروع إقصاء المكون السلفي, وان تلبس هذا المكون ببعض الأخطاء فالسبيل إلى رده إلى جادة الصواب هو بالمناظرة والمحاججة الفكرية والفقهية, فلتقم الندوات الفكرية والمناظرات العلمية ولتنقل على الهواء مباشرة ليراها ويسمعها كل الشعب, ولتبتعد كل الأطراف عن التحريض ضد بعضها البعض, وليلقي كل طرف بما عنده مما يعتقده حقا وصوابا بالحسنى والطرق السلمية بعيدا عن التجريح والتكفير, وفي الأخير سيختار الشعب من يراه أقدر على قيادته إلى بر الرخاء وشاطئ الأمان.
وما يقال عن المكون السلفي يقال أيضا عن جيوب العلمانية وفلولها, أن تبتعد عن خطاب الكراهية والعنصرية, وأن تكف عن التعرض لمقدسات الأمة, وتنأى بنفسها عن وصم الآخرين بالظلامية والتخلف وعن الاستفزازات المتكررة لمكونات الشعب الأخرى, آنذاك طاولة الحوار ستسع الجميع, وسيكون بمقدور الشعب أن يختار و يقول كلمته في هدوء ووئام. 

الاسمبريد إلكترونيرسالة