JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

تسريبات الهيئة.. السياق والأبعاد

تسريبات هيئة تحرير الشام

عبد الغني مزوز---

انشغلت الساحة السورية في الفترة الأخيرة بتسريبات صوتية قيل إنها تخص قادة في الصف الأول بهيئة تحرير الشام، وتتضمن " إساءات" لبعض الشخصيات الشرعية في الهيئة، إساءات عجلت باستقالة الداعية الإسلامي المعروف عبد الله المحيسني ثم أعقبها انشقاق "جيش الأحرار" بقيادة الطحان.

يبدو واضحا أن التسريبات لم تحصل بمحض الصدفة، أو نتيجة خطأ تقني في منظومة الاتصال الداخلية للهيئة، بل يقف خلفها مجهود منظم واحترافي بصلاحيات واسعة مكنته من فك شفرة الاتصال ومعرفة الأسماء الحركية للمتحدثين وتمييز نبرات صوتهم وتحديد مواقعهم القيادية، هذا المجهود المنظم هو الذي تعامل مع ساعات التواصل الطويلة بين القادة العسكريين وانتقى منها فقرات حساسة من بضع دقائق، ثم قام بتحريرها ونشرها في وقت مدروس، لأهداف مدروسة، وفق أجندة عمل تتوخى تفكيك القوة الضاربة للثورة السورية، وفرش البساط للوافد الجديد " الجيش الوطني".

استطاع المسؤولون عن التسريبات بعد جهد مضني، رصد بعض الإساءات والتجاوزات اللفظية المرتجلة من بعض القادة العسكريين في الهيئة، وهي تجاوزات لا تعكس سياسة الهيئة ومبادئها وخطها الثوري، كما بين ذلك قائدها أبو جابر الشيخ أثناء تعليقه على التسريبات في قناته على التلجرام. ثمة أمر لم ينتبه إليه الكثيرون وهو أن تلك الإساءات والتجاوزات – المفترضة- لم يستطع أصحابها تمريرها والتحدث بها علنا لأنها ببساطة تعارض مبادئ الهيئة، فهي إذن في حكم اللغو والسوالف التي لا يخلوا منها مجلس وخاص، وحديث بين صديقين. بينما تتحول أضعاف تلك الإساءات والتجاوزات إلى عقيدة ثورية عند بعض الفصائل؛ تروجها في إعلامها وتبثها في بياناتها الرسمية وتصدح بها منابر مساجدها، حتى غدت جزء من هويتها "الثورية". فإذا كان قائد عسكري في الهيئة أساء في حديث سري وخاص إلى أحد الدعاة في الساحة، فإن فصيلا في الغوطة مثلا يعتبر اغتيال الدعاة والعلماء بواسطة الكواتم واللواصق والمفخخات جزء من برنامجه " الثوري"، ولم تخرج تسريبات صوتية مجهولة المصدر لفضح جرائمه بحق الدعاة بل اعترف بذلك أمنيوه وعسكريوه بالصوت والصورة. ومع ذلك فالقائد العسكري في الهيئة حوكم وعوقب بالسجن لإساءاته " اللفظية " بينما يواصل ذلك الفصيل في الغوطة مهنته الأثيرة (قتل العلماء والدعاة ووجهاء الناس) تحت غطاء سياسي وشرعي من المجلس الإسلامي السوري. والجدير بالذكر أنه لا يستهدف العلماء بسبب مواقفهم السياسية فقط بل أيضا بسبب اختياراتهم العقدية فحارب الأشاعرة وقتل علمائهم وصادر حقهم في التعليم والخطابة، دفاعا عن جناب "التوحيد الخالص" حسب مزاعمه المتهافتة.

يتحدث شرعيو الثورة السورية كثيرا عن " نظرية الحشد" و "معركة الأمة كلها" و " الغزو مع كل بر وفاجر" " وإشراك كل شرائح الأمة في المعركة ضد الشيعة" ولم يرد في بالهم ربما أن من مقتضيات " الغزو مع كل بر وفاجر" أن تسمع ما لا تحبه وترى ما لا ترضاه وأنت بصدد معركة حشدت لها كل الأمة بمختلف طبقاتها وشرائحها وتفاوت أفرادها في مستوى الثقافة والأخلاق والتربية، فقد تجد مثلا في خط الرباط رجلا يعاقر الخمر وآخر يردد فحش الكلام وسيئ الخطاب، وآخر يناجي حبيبته في ظلمة الخندق ويبعث إليها بشوقه وحنينه، وسيكون واجبا عليك أن تغض الطرف عن كل ما سبق، مادامت بوصلة الثورة سليمة وقيادتها راشدة، أو تنصح بالحسنى وتُعلم في صبر. إن من صفات القادة العسكريين ومن معالم شخصياتهم: الاندفاع والبأس والصلابة.. وعلى عاتق قيادتهم السياسية يقع عبء توجيه وضبط ذلك الاندفاع نحو مسار يخدم قضية الثورة وأهدافها ولم يكن مطلوبا -في يوم من الأيام- من رجال الحرب أن يُدبجوا قصائد الغزل أو يتناجوا بكلام رومانسي رقيق يأسر القلب ويأخذ بالفؤاد، وإلا لأصبحوا فنانين وشعراء مكانهم المسارح وصالونات الأدب وليس قادة عسكريون بيئتهم الحرب والمعارك.

جاءت التسريبات في وقت يتم الترتيب فيه لجولة الحسم في مفاوضات "أستانة"، جولة أخيرة وُضعت فيها النقط على الحروف، وتمايزت المكونات ونضجت الطبخة وحُددت معالم المرحلة المقبلة. وأكد مراقبون كثر على أن " أستانة6" هي آخر الحلقات في سلسلة المفاوضات بين النظام والمعارضة في العاصمة الكازاخية، وبالتالي فهي مفاوضات صريحة وحاسمة، بعثت على إثرها فصائل المعارضة المعتدلة بخرائط مواقعها في إدلب إلى المعنيين بتسطير مناطق خفض التصعيد، وفرز المعتدلين عن المتطرفين، وتحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سياقها عن تفاهم بين تركيا وروسيا وإيران بخصوص مصير المدينة، كما نقلت صحيفة الشرق الأوسط في 13/09/2017 عن مصادر متطابقة قولها أن عملية عسكرية في إدلب تستهدف هيئة تحرير الشام يجري الإعداد لها بمشاركة المعارضة السورية المعتدلة تحت غطاء روسي تركي. في خضم هذا الزخم من الأحداث وقبلها الإعلان عن تشكيل " الجيش الوطني"، والخرجات الإعلامية لحسام الأطرش القيادي في حركة نور الدين زنكي التي اتهم فيها قيادة هيئة تحرير الشام بالعمالة وتسريبه لمحاضر اجتماعات مجلس شوراها، وفتاوى المجلس الإسلامي السوري.. في سياق كل هذه المعطيات وغيرها تم نشر التسريبات.

بما أن الجولاني يحترف إفساد الطبخات الدولية، وبعثر في الماضي كثيرا من الأوراق، وجعل من مخرجات المؤتمرات السابقة مجرد حبر على ورق، وبوجود الجماعة التي يقود جهازها العسكري فإنه من الصعوبة بمكان تمرير مخرجات " أستانة6 " الحاسمة وتنزيلها على أرض الواقع، وبما أن الفصائل التي كان يعول عليها لتطبيق تلك المخرجات قد أحيلت جميعها إلى التقاعد المبكر، فإن إشغال الجولاني بترتيب بيته الداخلي ودق الأسافين بين مكونات جماعته وتشكيكها في قيادتها ربما يساعد في تجنيب جولة "استانة6" مصير الجولات السابقة. لقد كان واضحا جدا أن الهدف الأول من التسريبات هو خلخلة البنية التنظيمية للهيئة وتعريضها للانشقاقات وزعزعة الثقة بين مكوناتها، وبالتالي فهي تركز أساسا على تجريد الفعل العسكري للهيئة من شرعيته الدينية من خلال اللعب على وتر الخلافات العادية بين بعض القادة العسكريين في الهيئة وبين بعض الشخصيات الشرعية، وإعطاء ذلك الخلاف أبعاد أخرى كبيرة. ولا يستبعد أن تكون الإغتيالات الأخيرة للدعاة والشرعين وآخرهم الدعية سراقة المكي ضمن هذه الخطة. وقد حاول القائد العام للهيئة المهندس أبو جابر الشيخ توضيح ذلك وإعادة الأزمة المفتعلة إلى حجمها الطبيعي.

الذين انشقوا عن الهيئة لم يستطيعوا تقييم الوضع جيدا وقراءة المرحلة قراءة صحيحة، ولم يفرقوا بين عمق الفكرة وأصالتها وبين لحظية الخلاف وزمنيته، فالهيئة مشروع فكري ثوري تحرري لا ينبغي أن تنسفه الأحاديث المرتجلة العابرة وتجاوزات مفترضة من بعض الأفراد، وإلا فلينتظر المنشقون مجتمعا ملائكيا لينضموا إليه ويكونوا جزء منه، لأنه حتى في مجتمع الصحابة كانت هناك إساءات وأخطاء، ولحظة الفتوحات الإسلامية العظيمة لم تكن تخلوا من تجاوزات القادة العسكريين وأخطائهم، ومع ذلك لم تُعطل فكرة الفتوحات الإسلامية ومبدأ تحرير الإنسانية لأن خالد بن الوليد وغيره من القادة أخطئوا في بعض قراراتهم و مواقفهم.

إذا كانت أسابيع وربما شهور طويلة من التنصت على منظومة الاتصال التابعة للهيئة كشف عن ذلك القدر مما يمكن وصفه "بالتجاوزات"، مع نطق القادة العسكريون في التسريبات بكل ما في جعبتهم من " إساءات" فكانت النتيجة بضع كلمات مسيئة في سياق كلام عابر لا يعكس مطلقا سياسة الهيئة وتوجهها العام. فكيف لو تسنى لنا الإطلاع على فحوى المكالمات الداخلية للفصائل الأخرى، خصوصا تلك المعادية للهيئة، بالطبع لا يمكن تصور ما ستحتويه من كوارث ومفاجئات مادام إعلامها الرسمي يتحفنا كل يوم بتصريحات مثيرة ومواقف صادمة.

الاسمبريد إلكترونيرسالة