عبد الغني مزوز---
قرأت قبل أيام موضوعا متعلقا بالثورة السورية، وأثناء القراءة صادفتني عبارات جعلتني أعود إلى عنوان الموضوع ومقدمته لأتأكد أنني فعلا بصدد موضوع عن الثورة السورية وليس عن القضية الفلسطينية، حيث مررت بالعبارات التالية: " كبير المفاوضين؛ استئناف المفاوضات؛ عودة اللاجئين؛ جبهة تحرير وطني؛ قرار أممي؛ توحيد الفصائل وإنهاء الانقسام.." ولما أنهيت الموضوع وتأكدت يقينا أنني أقرأ عن الثورة السورية؛ قلت في نفسي هنيئا للعرب بنكبتهم الجديدة، لقد تضافرت جميع عناصر صناعتها ومكوناتها الأساسية، فقط تحتاج إلى بعض الوقت للنضوج وتأخذ شكلها النهائي؛ نكبة مكتملة الشروط والأركان، وعلى عاتق الأجيال القادة يقع عبئ تخليد ذكراها، وإقامة المهرجانات الفلكلورية إحياء لها، وبعد عقود قد يحتفل السوريون بقرار لليونسكو يؤكد أن الجامع الأموي في حلب تراث عربي خالص، ومن يدري قد يحتفلون أيضا بقرار من مجلس الأمن يدين الاستيطان في دمشق وحمص وحماة.
الغريب أن نكباتنا تخرج دائما بمعالم متشابهة، ومسميات إن لم تكن متطابقة فهي متقاربة في أدق التفاصيل وأصغرها، ربما لأن مهندسوها على يقين أنهم أمام أمة مردت على الوصاية والسلبية وقابليتها للاستعمار تكاد تكون جزء من ماهيتها وعنصرا أصيلا في كينونتها، وبالتالي فمهمتهم لا تستدعي دكاء ولا تورية. وهذا الحكم لا يخلو من وجاهة، فالأمة لا تنعتق من احتلال حتى تقع في شراك آخر، ولا تكاد تزيح عن كاهلها انقلابا وحكما عسكريا جبريا حتى تنوء بثقل آخر. الثورة السورية اليوم يُراد لها أن تتحول إلى قضية فلسطينية أخرى، من خلال تجريدها من عناصر الحل وأسباب الظفر، وتوريطها في مسار الحل السياسي العبثي؛ ألم يُؤمنوا للثورة السورية أيضا كبيرا للمفاوضين، ويجروها جرا لمؤتمرات التفاوض، ويقنعوا قطاعا من أبنائها أن لا بديل عن التسوية السياسية والتطبيع مع النظام الدموي، كما أقنعوهم بضرورة المشاركة في محاربة الإرهاب، باعتباره أصل المشكلة ولبها !
كان هدف الثورة الفلسطينية وفصائلها المسلحة تحرير كامل الأراضي الفلسطينية من البحر إلى النهر، وكان مجرد التفكير في الاعتراف بإسرائيل خيانة يلاحق العار أصحابها. اليوم لم تعترف بعض تلك الفصائل بإسرائيل فحسب، بل نسقت معها أمنيا واستخباريا وتحولت إلى وحدات أمنية تبلغ عن شباب الانتفاضة، ومقاومي الاحتلال، ومن تسميهم بالإرهابيين الذين يطعنون ويدهسون "المواطنين الإسرائيليين" والطريف في الأمر أن تقترف كل ما سبق وأكثر تم تصر على أنها الجهة الوحيدة الممثلة للكفاح الفلسطيني، والساهرة على حقوقه، والمعبرة عن آماله وتطلعاته.
لا شك أن ثمة إرادة دولية لتأبيد المأساة السورية، وإذا كان النظام الدولي وفي القلب منه الولايات المتحدة الأمريكية يسعى إلى الدفع بالثورة السورية إلى مسارات الاستعصاء، التي يفرضها الانخراط غير المحسوب فيما يسمى بالحل السياسي، فالأخطر أن ينتصب لرعاية هذه الإرادة وتمرير مقتضياتها ومخرجاتها من يعتبرون أنفسهم ثورا قدموا شهداء وجرحى ومعتقلين، والغريب أن يرى هؤلاء في نفسهم نماذج للثوار المعتدلين الذين جمعوا بين بأس البندقية والرصاص ودهاء التفاوض والسياسة، بينما هم في الحقيقة في أولى خطواتهم نحو التطبيع مع المنظومة الطائفية المجرمة وروافدها الدولية والإقليمية.
العمل السياسي ليس ياقة بيضاء وربطة عنق، ولغة خشبية مبتذلة، ومواقف رمادية. في الحقيقة العمل السياسي لا يبدأ عندما يتحلق أطراف الأزمة حول طاولة النقاش والتفاوض بل تلك نهايته، فبدايته تكون على أرض الواقع، حيث كل إنجاز تحرزه في الميدان يُعد نصرا سياسيا، كل مدينة تحررها؛ كل موقع استراتيجي تحتله؛ كل جبهة يميل فيها الميزان العسكري لصالحك، تضاف آليا إلى رصيد منجزك السياسي، وعندما تجتمع إلى خصمك ذات يوم على الطاولة للتداول حول سبل الحل الممكنة يكون لك امتياز تحديد نوع الحل الذي تراه مناسبا، أما إذا ذهبت إلى التفاوض وأنت مثخن بالهزائم ومعطوب بالنكسات، فأنت ذاهب لتوقيع شهادة وفاتك ليس إلا.
يبدو واضحا أن مسعى تحويل الثورة السورية إلى نكبة أخرى يتحول معها العمل الثوري المقاوم إلى نشاط فلكلوري موسمي وفعاليات ثقافية وفنية تعترضه مجموعة من العراقيل والمعوقات؛ أولها: رسوخ وعي ثوري يتوجس من أي مقترح يرى في بشار الأسد جزء من الحل، أو يبوئه مكانا في مستقبل سوريا. والثاني: وجود قوى ثورية تتمتع بالقوة الضاربة والفاعلية الميدانية، لا تعترف بالحل السياسي والتسوية السلمية، ولا تعتقد بوجود أية أرضية مشتركة يمكن أن يلتقي عليها النظام بالثورة في يوم من الأيام. هذان المعوقان يتم التعامل معهما الآن بكل جد وصرامة، فالأول عبر ترويج خيار الهدن المصالحات التي تُبرم في كثير من المدن والمواقع المحررة، حيث تنشط لجان المصالحة مع النظام مقابل وعود بسوية أوضاع من يترك السلاح و يعود إلى حضن الوطن، ويجري الآن إعادة تدوير هؤلاء العائدين والدفع بهم إلى الجبهات من جديد لمحاربة "الإرهاب والجماعات المسلحة"، وقد تم الإعلان مؤخرا عن تشكيل الفيلق الخامس من أجل استيعاب هؤلاء. المعوق الثاني الذي يتمثل في القوى الثورية الملتزمة بالخيار العسكري لإسقاط النظام وتفكيك منظومة تحالفاته المترامية، فيجري التعامل مع هذه القوى بما يتيح إنهاكها وتجريدها من قوتها وفاعليتها الميدانية؛ وذلك من خلال العمل العسكري المركز الذي يستهدف الفصائل الثورية التي توصف بالإرهاب والتشدد وتحديدا جبهة فتح الشام، لقد تصاعدت في الآونة الأخيرة وثيرة القصف الذي يطال قيادات وكوادر الجبهة إضافة إلى مقراتها وتجمعاتها العسكرية ومرافقها الإدارية وحتى الخدمية، وخسرت عشرات القادة الكبار ثمنا لموقفها الممانع لأي تسوية سياسية قد تفضي إلى اعتراف كلي أو جزئي بنظام الأسد.
التحديات التي تعترض درب الثورة السورية كثيرة ومتعددة، وهناك إصرار دولي على إلحاقها بنظيراتها من الثورات المجهضة، ليصبح فرقائها أمراء حرب يكيد بعضهم لبعض. إن حالة الاستعصاء التي تعرفتها " المسألة السورية" تعبر عن توجه دولي يرى أن تأبيد الصراع وفق قاعدة "لا غالب ولا مغلوب" هو أنجع مقاربة للأزمة، لأن انتصار الثورة يعني بالمحصلة سقوط نظام وظيفي هو بمثابة الركن الأعظم لأمن إسرائيل. وتفاعل بعض مكونات الثورة مع عروض التفاوض والحوار يكرس هذا التوجه الدولي ويعزز من فرص نجاحه.
تمثل الثورة السورية نموذجا انتفاضيا يحيل على الأبعاد العقائدية والهوياتية للصراع، وهو ما يمنح للفعل الثوري امتياز الاستمرار والتماسك والقدرة على الصمود في مواجهة خصم متمترس خلف ركام من المقولات الطائفية ومتخم بثارات حملها في صدره مند قرون خلت. وبالتالي لا ينبغي أن يشعر الثوار بالحرج وهم يرفعون شعارات ورايات إسلامية، ويصدرون في حركتهم وسكونهم عن مقتضى الشرع الحكيم، ولا ينبغي أن يترددوا في رفض أي مقترح للحل لا ينص بوضوح على الهوية الإسلامية للدولة. قبول الفصائل الثورية بأي هامش يتيح المساومة على هذا المعطى الجوهري في الثورة هو تنازل مريع وإن مرر تحت وابل من المسوغات السياسية والبراغماتية.
رغم تضافر المؤشرات التي تنبئ بنكبة أخرى في سوريا، إلا أن الثوار عازمون على المضي في مسار المقاومة والتحرير، ولعل دخول خيار حرب العصابات حيز التداول الثوري يدل بشكل قطعي على غلبة خيار الحسم العسكري وشرعية البندقية الملتزمة، على ما سواه من الخيارات والمسارات.