JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

قصة أبي زبيدة.. الوقائع الغائبة في مذكرات صقور البيت الأبيض

أبو زبيدة



عبد الغني مزوز---

كان علي صوفان محققا مشهودا له بالكفاءة والمهنية داخل مكتب التحقيقات الفيدرالي، منحته أصوله المسلمة ولغته العربية فهما أفضل لكثير من القضايا ذات الصلة بالوطن العربي، أو كان المسلمون والعرب طرفا فيها. كان في اليمن منهمكا في تحرياته بخصوص تفجير المدمرة الأمريكية uss cole في خليج عدن عندما جرى استدعائه نظرا لخلفيته الملمة بملف الإرهاب من أجل التحقيق مع شخصية جهادية من طراز خاص تم اعتقالها في باكستان في مارس/آذار 2002، وتقبع في موقع سري تابع للمخابرات المركزية في تايلند. كان أبو زبيدة في حالة مزرية؛ مصابا بالرصاص في بطنه وساقه، وعينه اليسرى آخذة في التلف، متعبا وبالكاد يستوعب ما يحصل له عندما وصل علي صوفان لاستجوابه. ما حدث بعد ذلك في تلك الغرفة بقي محاطا بأشد أنواع الرقابة والسرية لسنوات، أُخذ تعهد من الشهود بالتزام الصمت التام، على يمضي المحتجز ما بقي من عمره في مكان لا يدري به أحد، دون أن يحصل على إمكانية للتحدث أو تأكيد وجوده حتى. وإذا مات فيجب أن تحرق جثته حتى لا يتعرف عليها أحد.

السجين الأبدي


سجل علي صوفان شهادته في كتاب وجد طريقه إلى النشر، لكن بعد أن طالت تسويد الرقابة معظم فقراته، بما فيها ضمائر المتكلم التي لم ترق للجهات النافذة، فقررت تطويق كل حرف يتسرب من قصة أبو زبيدة. نشرت الصحافة العالمية نتفا مما جرى في بعض مواقع الاحتجاز السرية المنتشرة حول العالم، وشرع القضاء الأمريكي في النظر إلى ما سمي " بتقنيات الاستجواب المعزز"، وهي تسمية مخففة لإحدى أبشع تقنيات التعذيب التي استخدمها الانسان. ورغم أن اسم أبو زبيدة احتل لفترة طويلة شاشات الأخبار وعناوين الصحف، إلا أن الكثير مما ذكر بشأنه كان في الواقع صياغات متعددة لرواية واحدة، الرواية التي روجتها إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش والصقور المحيطين به. ورواية جورج ميتشل الطبيب النفسي الذي صمم برنامج التعذيب المثير للجدل وأشرف على تطبيقه.

كان على العالم أن ينتظر 20 سنة ليطلع على تفاصيل ما جرى في ذلك الموقع الأسود في تايلند، ويكتشف أن ما روجه صقور المحافظين الجدد في مذكراتهم بمن فيهن الرئيس جورج بوش نفسه كان محض كذب وتلفيق. فقد قرر صانع الأفلام الوثائقية أليكس غيبني Alex gibneyانتاج فيلم وثائقي عن قصة أبو زبيدة، ولما وجد أن روايته ستكون ناقصة ما لم يتكلم الشهود الذين فرض عليهم التزام الصمت، فقد قرر الذهاب إلى القضاء لإجبار CIA على إلغاء رقابتها الصارمة على شهادة علي صوفان المسجلة في كتابه "الرايات السود". فأصبح صوفان أخيرا قادرا على الكلام.

يؤكد صوفان أن أبا زبيدة كان متعاونا جدا خلال الاستجواب، وقدم معلومات مفيدة عن طبيعة أدواره، والمؤامرات التي كانت القاعدة بصدد التحضير لها، وخلال التحقيق معه اكتشف صوفان أن "خالد شيخ محمد" هو نفسه المدعو "مختار"، ومن حينها فقط عرفت الولايات المتحدة أن العقل المدبر لهجمات 11 سبتمبر هو خالد شيخ محمد، لأن اسم "مختار" ردده أسامة بن لادن مرارا في جلسة مع كبار قادة التنظيم وهم يتحدثون عن هجمات سبتمبر وتم العثور على شريط وثق الجلسة في أفغانستان. لقد أخذ التحقيق منحى مثمرا، وأدلى أبو زبيدة بكل ما لديه، ولم يكن عنده الكثير؛ إذ لم يكن قياديا في القاعدة -كما يؤكد صوفان- ولا حتى عضوا فيها. كانت مهمته الأساسية لوجستية بحتة، وتقضي بتوصيل المتطوعين الأجانب إلى معسكرات القاعدة داخل أفغانستان، ولأن مهمته هذه تنطوي على مخاطر أكيدة، ومساحة نشاطه تقع خارج مناطق نفود طالبان والقاعدة، ويتواصل مع جهاديين مفترضين لم يتم التأكد بعد من نواياهم الحقيقية، فقد أخضع نفسه لإجراءات أمنية صارمة، يدلي بهويات مزيفة، ويتحرك بجوازات سفر مزورة، وخطواته كلها محسوبة بعناية.
يؤكد صوفان أن أبا زبيدة كان متعاونا جدا خلال الاستجواب، وقدم معلومات مفيدة عن طبيعة أدواره، والمؤامرات التي كانت القاعدة بصدد التحضير لها

كان الاستجواب يمضي على قدم وساق، وفي كل مرة يحصل فيه صوفان وزميله على معلومة مهمة يبادران فورا بإرسالها إلى وكالات ومؤسسات انفاذ القانون في الولايات المتحدة. وفجأة وصل أمر من جورج تينيت مدير وكالة المخابرات المركزية بإيقاف التحقيق مع أبو زبيدة، وانتظار وصول فريق من الوكالة، لأنه يعتقد أن الرجل لم يكن متعاونا، بل يبدو أنه يطبق إرشادات خاصة بمقاومة التحقيق. وصل فريق CIA المكون من: جيمس ميتشل، طبيب نفسي تعاقدت معه CIA لتدريب المحققين، وتصميم برنامج استجواب عدواني يؤدي إلى كسر مقاومة المحتجزين للتحقيق، وصل مبلغ تعاقده مع الوكالة إلى 180 مليون دولار. ويلسون: كبير المحللين السلوكيين في CIA. إيد: محقق من CIA. فرانك: مسؤول جهاز كشف الكذب. وصل الفريق وشرع في تطبيق "تقنيات الاستجواب المعزز" التي صممها جيمس ميتشل، وتتضمن هذه التقنيات: الحرمان من النوم، الايهام بالغرق، التعليق في قضبان الزنزانة، وضع المحتجز في صندوق صغير وتابوت ضيق. وطوال 17 يوما تعرض أبو زبيدة لوابل متواصل من أساليب التحقيق العدوانية، أمضى 11 يوما في صندوق على شكل تابوت، و260 ساعة في صندوق أصغر بكثير تبول فيه على نفسه وتغوط، وتعرض للإيهام بالغرق 83 مرة في شهر واحد فقط. علق عاريا على قضبان زنزانته لأيام، حتى فقد الوعي وتدهورت حالته، وأصيب بتشنجات وتقيؤ. حتى أن المشرفين على هذا التعذيب لم يستطيعوا الاستمرار في مهمتهم لفظاعتها البالغة، قاموا بتوثيق عملهم الفظيع على شريط فيديو وأرسلوه إلى إدارة CIA لعلها تأمر بتعليق مهمتهم، لكن الأوامر أتتهم بالاستمرار[1].

أتت نتيجة "تقنيات الاستجواب المعزز" عكسية تماما، توقف أبو زبيدة عن التعاون، وتضررت قواه الادراكية ولم يعد قادرا على التفاعل مع أسئلة المحققين. عاد علي صوفان إلى غرفة التحقيق لكنه رفض استئناف عمله قبل توقف رجال CIA عن ممارساتهم العدوانية ضد المحتجز، حتى أنه فكر في اعتقالهم، وتحدث مع مدير FBI بشأن ذلك، وأمره هذا الأخير بمغادرة الموقع والعودة إلى الولايات المتحدة. وصل استفسار من جورج تينيت عن سبب انقطاع تدفق المعلومات من موقع الاحتجاز، وكف السجن عن التعاون، فأجابه صوفان بأن رجاله أفسدوه. لم يكن رجال CIA خائفين من المتابعة القضائية فقد أجرت وزارة العدل ووكالة المخابرات المركزية بتوجيه من الرئيس الأسبق جورج بوش مراجعة قانونية دقيقة خلصت إلى أن برنامج الاستجواب يتوافق مع الدستور وجميع القوانين المعمول بها بما فيها تلك التي تحظر التعذيب. وكان الرئيس بوش قد وقع أمرا تنفيذيا في 13 من تشرين الثاني/نوفمبر 2001 بتأسيس محاكم عسكرية لمحاكمة الإرهابيين، واستند القرار على المحاكم العسكرية التي أنشأها فرانكلين روزفلت عام 1942 والتي حاكمت وأدانت جواسيس نازيين تسللوا إلى الولايات المتحدة. وقررت بذلك إدارة بوش أن معتقلي القاعدة وطالبان ليسوا أسرى حرب ولا تسري عليهم بالتالي بنود وتوصيات معاهدة جنيف.

مذكرات صقور الحرب


خلافا لشهادة من حضروا غرفة التحقيق مع أبي زبيدة، وسجلوا في مفكراتهم الشخصية ما جرى حينها أولا بأول، تحدث الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش في مذكراته المنشورة "قرارات مصيرية" عن وقائع مجانبة للصواب بشأن قضية أبي زبيدة وتقنيات الاستجواب المعزز فكتب:" ثبتت الفعالية الكبيرة للتقنيات الجديدة، كشف أبو زبيدة عن قدر كبير من المعلومات عن هيكلية تنظيم القاعدة وعملياته، كما أنه قدم دلائل ساعدت في الكشف عن مكان رمزي بن الشيبة"[2] وفي الواقع لم يحدث أي من هذا، التعذيب عطل تعاون أبي زبيدة وخرب ذاكرته الإدراكية، ولم يقدم أي معلومة قادت إلى اعتقال رمزي بن الشيبة. وأضاف بوش:" شعرت بالارتياح لإبعاد أحد كبار القادة في تنظيم القاعدة عن أرض المعركة"[3]. وقد أجمع كل من له صلة بملف أبي زبيدة من محاميين ومحققي FBI أنه لم يكن قياديا ولا حتى عضوا في القاعدة، وعبروا له لاحقا وهو في غوانتنامو عن اسفهم لأنهم اكتشفوا أنه لم يكن قائدا ولا عضوا في منظمة القاعدة. كتب بوش:" محاكاة الغرق، لا شك أن هذا الأسلوب قاس، لكن الخبراء الطبيين أكدوا لوكالة CIA أنه لا يسبب ضررا مستمرا"[4]. والحقيقة أنه لا توجد دراسة علمية واحدة تؤكد أن أساليب التعذيب المتبعة في مواقع الاحتجاز ومنها الايهام بالغرق لا تسبب ضررا مستمرا، بل سببت حالات هستيرية، وأزمات نفسية قادت الكثيرين إلى الانتحار أو محاولة الانتحار.

خلافا لشهادة من حضروا غرفة التحقيق مع أبي زبيدة، وسجلوا في مفكراتهم الشخصية ما جرى حينها أولا بأول، تحدث الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش في مذكراته المنشورة "قرارات مصيرية" عن وقائع مجانبة للصواب بشأن قضية أبي زبيدة وتقنيات الاستجواب المعزز
حرص جورج تينيت بدوره في مذكراته "في قلب العاصفة" وكان مديرا لـ CIA في إدارة جورج بوش، حرص على تقديم صورة مخالفة للواقع عن برنامج التعذيب الذي رعته وأشرفت عليه وكالته، وإن اعترف بتطبيق "أكثر أساليب الاستجواب عدوانية على حفنة فقط من أسوأ الإرهابيين في العالم". كتب جورج تينيت في مذكراته:" قدم ضباط السي أي إيه سلسلة من أساليب الاستجواب التي تراقب بعناية طوال الوقت لضمان سلامة السجين، وكانت الإدارة ووزرة العدل على اطلاع تام وأقرتا استخدام هذه التكتيكات"[5] ولم يوضح جورج تينيت ماهي طبيعة العناية التي حصل عليها محتجز عاري ومحروم من النوم لأيام في غرفة باردة نتيجة التلاعب بمكيفها، أو وهو محشور في تابوت ضيق لأيام. واستطرد تينيت قائلا:" على غرار موقوفي القاعدة اعتقد أبو زبيدة أن بوسعه التذاكي على مستجوبيه، فكان يعرض نتفا من المعلومات التي يعتقد بأنها تعطي انطباعا بأنه يقدم مادة مفيدة دون أن يعرض أمن العمليات للخطر"[6] وقد حاجج علي صوفان المتمرس في استجواب الإرهابيين، وهو أيضا أول محقق نجح في ربط هجمات 11 سبتمبر بتنظيم القاعدة، حاجج بأن أبو زبيدة لم يكن مراوغا خلال استجوابه، بل كان تلقائيا في الإجابة على أسئلة محققي مكتب التحقيقات الفيدرالي قبل أن يتدخل طاقم جيمس ميتشل ويفسدوا الأمر. يقول تينيت :" بيد أن أبو زبيدة قدم في النهاية المعلومات الرئيسية" وتأسف في أنه " ما من قصة نجاح تدوم طويلا في واشنطن قبل أن يحاول أحد التقليل منها"[7] والذي يستعرض قصة "الاستجواب المعزز" منذ تدشين البرنامج صبيحة الرابع من أغسطس/آب 2002 إلى اليوم سيجده مثالا على الإخفاق على كل الصعد والمستويات. ولو ترك أبو زبيدة حرا طليقا لما استطاع مهما جنح به خياله التخريبي أن ينال من الولايات المتحدة، كما نال منها وهو مقيد وعاري ومحشور في قفص حديدي ضيق. لقد جعل العالم يتساءل عن وجاهة القيم التي تأسست عليها إحدى أعرق الديمقراطيات في العالم.

ديك تشيني نائب الرئيس بوش، وأحد كبار أعمدة إدارته، ردد نفس المغالطات في مذكراته المعنونة بـ " في زماني" مشيدا بتقنيات الاستجواب المعزز، وتأسيس منظومة قضائية استثنائية لمحاكمة الإرهابيين المفترضين، كما صنع الرئيس روزفلت مع المعتقلين النازيين. وأكد نجاح التقنيات التي صممتها السي أي إيه في "إنقاذ حيوات ومنع هجمات تالية"[8]، وجعلت أبا زبيدة يبوح بمعلومات أدت إلى اعتقال رمزي بن الشيبة. وعبر عن أسفه من إقدام الرئيس باراك أوباما على حظر البرنامج المثير للجدل، مما متع إرهابيا مثل عمر فاروق عبد المطلب بحقوقه القانونية ومنها الحق في التزام الصمت.

كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي للرئيس بوش نسجت أيضا روايتها على منوال رفاقها الصقور، وعبرت في "أسمى مراتب الشرف" وهو العنوان الذي اختارته لمذكراتها عن دعمها لعدوانية المحققين خلال استجواب الإرهابيين المشتبه بهم، وقالت بأن ثلاثة مدراء تناوبوا على وكالة المخابرات المركزية أوصوا بضرورة ذلك. الشيء الوحيد الذي استاءت منه وكادت تقدم استقالتها بسببه هو أن بوش لم يخطرها مسبقا بقراره القاضي بتشكيل لجان عسكرية لمحاكمة الموقوفين، وإصداره توجيها حول الإجراءات الناظمة لعملها.[9] صورت كوندوليزا رايس أبو زبيدة كجهادي خارق للعادة " اكتسب معرفة لا ينافسه فيها أحد عن قوات القاعدة المسلحة داخل أفغانستان وخارجها.. وكان تحديا كبيرا للمحققين.. ويعرف أكثر مما قال"[10]. الفيلم الوثائقي الذي أنتجه ألكس غيبني بعنوان: السجين الأبدي فند المزاعم السابقة كلها، مستعينا بالوثائق الرسمية وشهادة الشهود.

تلعب الصحافة الحرة والسينما الجادة والقضاء المستقل أدوارا حيوية في تقويم نظام ديمقراطي يعتريه العطب والاختلال، وميزة أي نظام ديمقراطي حقيقي ليس في كونه على منأى من الأخطاء بل في احتوائه على آليات ذاتية قادرة على تصحيحها وتجاوز آثارها، إنها شرط المحاسبة التي يجعل أي ممارسة ديمقراطية؛ ممارسة قائمة وفاعلة وناجعة.




[1] The forever prisoner


[2] جورج بوش، قرارات مصيرية، ص: 230


[3] المصدر السابق نفس الصفحة


[4] المصدر السابق ص:229


[5] جورج تينيت، في قلب العاصفة، ص: 257


[6] جورج تينيت، في قلب العاصفة، ص:258


[7] المرجع السابق، ص: 259


[8] ديك تشيني، في زماني، ص:410


[9] كوندوليزا رايس، أسمى مراتب الشرف، ص: 135


[10] المصدر السابق، ص: 147
الاسمبريد إلكترونيرسالة