JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

غاس فرينغ.. في هجاء الرأسمالية



عبد الغني مزوز---

يحدث في كثير من الأعمال السينمائية والتلفزيونية أن تكون الحبكة الفرعية للعمل بقوة وجاذبية الحبكة الرئيسية، وربما فاتتها في بعض الأحيان إذا كان خطها الدرامي متقنا وشخصياتها على قدر كبير من الاحترافية. سيكون هذا بكل تأكيد انطباع كل من شاهد المسلسل التلفزيوني العظيم Breaking bad و تكملته المؤجلة في مسلسل Better call saul ومسك ختامه في فيلم El camino. على فكرة يمكن مشاهدة هذه الثلاثية بالتتابع الذي يختاره المشاهد مثل جملة تقرأ من البداية إلى النهاية أو العكس من النهاية إلى البداية دون أن يخل ذلك بمعناها وتركيبتها الدلالية. حيث يمكن أن يشاهد حسب زمن الإنتاج فتبدأ بـ Breaking bad ثم Better call saul ثم El camino أو حسب الزمن الدرامي للعمل فتبدأ بـ Better call saul ثم Breaking bad وتنتهي بـ El camino. وتزيد هذه الجزئية من براعة كتاب وصناع العمل، فعندما تم الانتهاء من مسلسل Breaking bad وحصد نجاحا كبيرا رأى مبدعه أن هناك إمكانية لمد الخطوط الدرامية إلى الوراء والاشتغال أكثر على الحبكات الفرعية، ومتابعة ماضي الشخصيات قبل أن تبلغ ذروة صراعها واشتباكها في المسلسل، فجاءت فكرة Better call saul في مستوى المأمول؛ استهلالا مدهشا لعمل عظيم أو تتمة متقنة له حسب زمن التلقي الذي سيختاره المشاهد.

لعبت شخصية "غاس فرينغ" دورا أساسيا في بناء سمعة المسلسل، سواء كشخصية أجاد " جيانكارلو اسبوزيتو" تجسيدها، أو كحبكة فرعية تفاعلت مع الحبكة الرئيسية، وخلقتا معا ذروة صراعية في منتهى الدهشة والاثارة. "غاس فرينغ" رجل أعمال بسيط المظهر، يتنقل بسيارة عادية، يملك سلسلة من المطاعم المتخصصة في تقديم وجبات الدجاج، يتودد للزبائن ويحرص بنفسه أحيانا على خدمتهم، يحتفظ بابتسامة مرحة تشعر مخاطبه أن كل شيء على ما يرام، مواطن مثالي بلغ به التفاني في خدمة المجتمع إلى حد التبرع لمؤسسات إنفاذ القانون، وخاصة وحدة مكافحة المخدرات DEA. لكن هناك جانب آخر في شخصية "غاس"، فهو قاتل شرس لا يرحم، ذو ملامح صخرية، ونظرة تثير الرعب والفزع، عصامي قادم من عالم المافيا، نشاطه كله محسوب بدقة ساعة سويسرية، لا مجال للارتجال والعشوائية، يفرط في الحذر ويعلي من شأن الانضباط. امبراطور مخدرات طموح، اتخذ من مطعمه غطاء يخفي عمله الحقيقي في انتاج وتوزيع المخدرات.

جسد "غاس فرينغ" الكثير من القيم الرأسمالية، فهو الرجل الذي آمن بالفرص، وبقدرة الفرد على تحديد مصيره في بيئة محفوفة بالتحديات والمخاطر. الوجه المرح والابتسامة البريئة التي يتلقى بها زبائنه ومعارفه تحيل إلى واجهة الرأسمالية وشعاراتها التي تعد بالأمان والرفاه. وعندما يكون في مكتبه أو في الزوايا المظلمة والمساحات الخالية لعقد الصفقات بعيدا عن الرقابة يتجلى في حقيقته؛ كائنا خطيرا ومفترسا قاسيا لا يتورع عن سفك الدماء في سبيل إمضاء رغبته في الاستحواذ والسيطرة. في كثير من المشاهد يظهر "غاس" مرتديا قميصا أصفر اللون، الأصفر هو اللون التفاؤل والإيجابية والاعتزاز بالنفس، كما يحيل أيضا على الحذر والانتباه ووجود الخطر، إشارات الطريق الصفراء تستدعي اليقظة وتخفيف السرعة. الأصفر يعكس طبيعة "غاس" الحذرة، وتعطي إشارة لمن يتعامل معه بضرورة الانتباه وعدم التهور.

"غاس" لديه منطقه الخاص في التعامل مع خصومه وأعدائه، يتحاشى الطريقة التقليدية لرجل العصابات في الانتقام وتصفية الحسابات. يعتبر وحدة مكافحة المخدرات من ألد أعدائه، ويكن لضباطها جبالا من الكره والضغينة، إنهم الخطر المحدق بطموحاته والزلزال الذي يهدد بنسف امبراطوريته، ولكي يبقى أعدائه دائما تحت عينيه فقد احتفظ بحميمية مزيفة اتجاه رجال الوحدة، يزورهم في مقرهم، ويتني على جهودهم في مكافحة المخدرات، ويتبرع لصالح وحدتهم، ويرسل إليهم وجبات مطعمه مجانا كعربون صداقة. كان في عين وحدة مكافحة المخدرات بمثابة المواطن المثالي، ومضرب المثل في خدمة المجتمع، ونموذجا للعلاقة الوثيقة التي يجب أن تربط المواطن بمؤسسات إنفاذ القانون. كل ما هنالك أن "غاس" يحب أن يبقي أعداءه في مرمى بصره، ويستمتع غريزيا بدخول عقر دارهم دون أن يدركوا حقيقته وهم يمدون إليه أكفهم لمصافحته بسذاجة طفولية.

المنطق نفسه وظفه في علاقته بآل "سالامنكا"، تلك العائلة العدوانية التي جمعها مع "غاس" تاريخ طويل من التعاون ثم التنافس المستتر في تجارة المخدرات. لقد احتفظ اتجاه زعيمهم "هيكتور سالامنكا" بمزيج من المشاعر المتراوحة بين الحقد والازدراء. في الأخير استطاع "غاس" فرض نفسه، وتحييد الخطر الذي تمثله الكارتيلات على امبراطوريته بما فيها الكارتيل الذي يضم آل سالامنكا، إلا أنه فضل الإبقاء على زعيمهم "هيكتور" الذي غدا مشلولا وقعيدا، وتركه يعيش لفترة طويلة، ليس لأنه لا يستطيع القضاء عليه، بل لأنه يعتبر الموت شيء مريحا بالنسبة لعدو من طينة "هيكتور"، تركه يعيش وحيدا في دور الرعاية، وأخذ في تصفية أفراد عائلته فردا فردا، فلا شيء يقدسه رجل العصابات أكثر من العائلة.

برزت النزعة الرأسمالية أكثر في شخصية "غاس فرينق" من خلال جهوده المحمومة في توظيف العلم والمعرفة في سبيل تعزيز المردودية ومراكمة الثروة. لقد رعى طالبا أكاديميا ووفر له كل شروط التحصيل والتفوق، ليس حبا في العلم بالتأكيد، إنما رغبة في اكتشاف صيغة كيميائية تسمح بإنتاج "مادة الميت" المخدرة بدرجة عالية من النقاوة. وعندما التقى بـ "وولتر وايت" أستاذ الكيمياء الموهوب، والقادر على انتاج مادة "الميت" بدرجة نقاوة تقترب من المائة في المائة، أدرك أن أفقا جديدا قد انفتح أمامه، إنه اكتشاف يعادل بالنسبة إليه اكتشاف "كولومبوس" للعالم الجديد، و "فاسكو دي كاما" لرأس الرجاء الصالح. ضربات حظ جلبت معها الثراء والهيمنة.

جهز "غاس" مختبر ضخما تحت منشأة صناعية تابعة له، تشغل هذه المنشأة عمالا أجانب، لا يتحدثون الإنجليزية، وربما أغلبهم مهاجرون غير شرعيون بلا هوية. هكذا لن يتعرفوا على طبيعة النشاط الذي يحدث أسفل أقدامهم، ولا يمكنهم فهم ما يدور هناك من حديث، وإن رأى أحدهم ما لا ينبغي له رؤيته فستتم تصفيته دون أن يفتقده أحد. أقام "غاس" خط إنتاج سري لإنتاج "الميت" عالي الجودة، وشبكة مموهة لتوزيعه وتصديره إلى خارج الحدود. تضاعفت المردودية بفضل العلم والعمالة الرخيصة، والقبضة الحديدة.

في مشهد بالغ الدلالة يدخل "غاس" يوما مختبره، يتجه بهدوء إلى دولاب الملابس، ينزع ملابسه بروية، يلبس بدلا منها بدلة المختبر العازلة للسوائل، يراقبه من في المختبر بصمت ودهشة، يقترب من أحد رجاله، وفي حركة خاطفة يوجه ضربة مميتة إلى عنقه فيفور منه الدم ويسقط صريعا مدرجا في دمائه، يعود بالهدوء نفسه إلى الدولاب ويرتدي سترته، ويصعد السلم مغادرا، وقبل أن يخرج يطل على "وولتر وايت" و" جيسي بينكمان" و"مايك" من أعلى قائلا: " عودوا إلى العمل" الكلمة الوحيدة التي قيلت في هذا المشهد المتوتر والقاسي. لقد تحول القتل هنا إلى إجراء حيادي تم بهدوء ووفق بروتوكول بيئة العمل وشروطها، القتيل انتهك لوائح العمل، وأخل بشرط الولاء، وسعى لإحداث اضطراب في المنظومة، فصار القتل عملية معقلنة لتصحيح الاضطراب لتعود عجلة الإنتاج إلى وضعها الطبيعي. يقول عبد الوهاب المسيري متحدثا عن القتل والإبادة في الحضارة الغربية المعاصرة:" فعملية الإبادة يجب أن تتم بحياد علمي رهيب، يشبه الحياد الذي يلتزمه الإنسان تجاه المادة الجماد في التجارب المعملية التي تتخطى حدود الخير والشر". وعندما خاطب غاس "عماله" بالقول عودوا إلى العمل، كان قد صعد السلم مستعدا للخروج، وقد أظهرته اللقطة المنخفضة، واحتلاله للكادر، بمظهر المسيطر، فكان للمشهد مدلول طبقي لا تخطئه عين المشاهد النبيه.

هذا العمل التلفزيوني المدهش يدل على القدرة الخلاقة لمبدعه فينيس غليغان، لقد صنعت الكتابة الجيدة والإخراج المتقن معجزة فنية غنية على مستوى ما تحمله من مقومات جمالية وما تضمره من أنساق فكرية، مع جرعات مناسبة من المتعة والإثارة والتشويق.







الاسمبريد إلكترونيرسالة