JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

الهيئة.. حصاد التحدي

 
هيئة تحرير الشام
                        

عبد الغني مزوز---

مازالت تطورات المشهد الثوري في سوريا تسفر تباعا عن معطيات وحقائق ظل البعض يعاندها منذ عسكرة الثورة، والغريب أن هناك من بقي معتصما بمواقفه المتهافتة من منطلق القولة العربية المشهورة " كذاب ربيعة خير من صادق مضر"، فيما وقائع التجربة وشواهد الحال لا تدعان مجالا لمزيد من العناد الخائب وركوب الرأس والمضي في خيارات قاتلة غرمها لا يعود فقط على من اجترحها بل على الشعب المنكوب وما بقي من ثورته. 

كانت الثورة السورية لحظة اختبار لأغلب مدارس الصحوة الإسلامية، حيث وجدت من فصائل الثورة من يمثل أفكارها وتوجهاتها، وكانت الحركة الجهادية حاضرة أيضا بأيديولوجيتها وقناعاتها الصارمة. الانطباع السائد لدى معظم المتابعين لشؤون الحركات الإسلامية أن الفاعلين الجهاديين هم الأضيق أفقا والأكثر دوغمائية من بين سائر الفاعلين داخل الفضاء الحركي الإسلامي؛ انطباع سرعان ما بددته سنوات الثورة التي كشفت عن حيوية ومرونة الخطاب الجهادي وجرأته على التجديد والتغيير والانفتاح، فضلا عن فهمه العميق لدروب ومتاهات الحلول السياسية التي أدخلت فيها الثورة قسرا. في المقابل تداعت أطروحات "الاعتدال" المنطوية على شهية مفتوحة للتغلب، وديكتاتورية طموحة لم تسعفها الإمكانيات للتمدد، حتى تحولت معاقل "الاعتدال" إلى إقطاعيات يمتهن أسيادها تجارة الأنفاق والمعابر على حساب أقوات الناس وأرزاقهم. 

لقد تحمل التيار الجهادي مسؤوليته أمام ظهور تنظيم داعش، فقام بتفكيك أطروحاته التكفيرية، وسحب بساط الشرعية الجهادية تحت قدميه، وحاربه بضراوة إلى أن أفنى وجوده في كثير من الجبهات، حتى أنه أجهز على جرحاه وأسراه وقتل من سلم منهم نفسه، رغبة منه في اقتلاع بذرة الغلو من جدورها وانفاذا لوصية النبي بقتل الخوارج قتل عاد. فهل تعاملت مدارس الصحوة الإسلامية الأخرى مع أخطائها بالشجاعة التي تعامل بها الجهاديون مع أخطائهم، هل صدر مثلا بيان واحد من الإخوان المسلمين يدين اصطفاف بعض فروعهم مع الثورة المضادة في العراق واليمن وليبيا، هل أدان أحد منهم تحالف الحزب الإسلامي مع الميلشيات الشيعية في العراق ضد أهل السنة. 

في سوريا دخل الجهاديون في خط الثورة، وتفرقوا في عدة فصائل كان أبرزها جبهة النصرة، التي انخرطت في دينامية من التحولات المواكبة للتطورات التي عرفها المشهد السوري وأفضت به إلى مزيد من التعقيد. يعتبر الأداء العسكري والإعلامي والسياسي لجبهة النصرة متميزا، وشكل علامة فارقة في مسار الثورة. وبما أن أبعاد المعركة مركبة ومجالاتها متعددة، ورغبة من الجولاني قائد جبهة النصرة في تجاوز أعمق أزمات التيار الجهادي والمتمثلة في غياب الخطاب السياسي القادر على استثمار جهود التيار وتوظيف انتصاراته لصالح الأمة ومشروعها التحرري، فقد دشن الرجل مسارا سياسيا منزها من وصاية الخارج وإملاءاته، ابتدأ من لحظة إعلانه فك الارتباط بتنظيم القاعدة والدعوة إلى تأسيس تحالف واسع من الفصائل الثورية، والاتفاق على مشروع سياسي مدني واعد، ينطلق من ثوابت الشرع والثورة يتم التداول بشأنه في مؤتمر عام وجهت الدعوة لحضور فعالياته إلى كل نشطاء الثورة ووجهائها وأعيانها. 

بدا المشروع في أيامه الأولى طموحا، وراهن على تحقيق غايتين أساسيتين؛ الأولى: ضرب المسار السياسي الذي ترعاه الدول الكبرى، خاصة مسار أستانا والتحذير من مغبة الدخول فيه، والعمل على حصاره داخليا من خلال التصدي للمجموعات التي وافقت عليه، وإطلاق معارك عسكرية تشوش على مخرجاته. وثانيا: رعاية مسار سياسي موازي يلبي تطلعات الشعب السوري في المناطق المحررة، عبر تدبير شأنه العام تدبيرا راشدا ونزيها في الداخل وتمثيل ثورته في الخارج تمثيلا يليق بمستوى التضحيات التي قدمها الشعب على مدار سنين الثورة. مع الأسف بعض الفصائل والشخصيات الثورية لم تكن في مستوى التحدي، واعتبرت الدعوة إلى تشكيل " حكومة للإنقاذ" لعبة جديدة يريد من خلالها الجولاني بسط نفوذه على الساحة. ولست أدري كيف يمكن لرجل عرض التنازل عن القيادة لفصيل منافس، واقترحت جماعته فكرة الإدارة المدنية للمناطق المحررة، وإنهاء المظاهر المسلحة وسط المدن، أن يكون راغبا في النفوذ والسيطرة إن كان ذلك متاحا له بوسائل أقل تكلفة وإهدارا للوقت. 

ثمة قطاع عريض من "المعارضة المعتدلة" أرهفوا سمعهم لفترة طويلة لتلك الأساطير والخرافات التي تقول بأن التحلي بالاعتدال، والابتعاد عن القوى المتشددة، وربما المساهمة في محاربتها، سيكون عاصما من عصا التصنيف في قوائم الإرهاب، وسيدر على الفصيل المعتدل مكاسب كبيرة، من بينها الاعتراف الدولي به، ودعمه بكل ما يحتاجه من موارد وإمكانيات. لكن الحقيقة التي عززتها معطيات التجربة أن المعتدلين هم أول من تسعر بهم نار المكائد، وأول الضحايا على مذبح التفاهمات الدولية التي لا تلبت أن تأخذ منحى عكسيا كلما دعت ضرورة مصالح الكبار إلى ذلك. بينما الفصائل التي حافظت على استقلاليتها وتحدت توصيات الخارج وإملاءاته واعتمدت على مواردها الذاتية، هي التي تُعمر أكثر. 

كان الخوف من التصنيف في قوائم الإرهاب من بين المبررات التي ساقها من رفض الانخراط في مشروع جامع تتوحد تحته كل فصائل الثورة، ومع الأسف لم يحُل خوفهم ذلك دون انفراط عقد فصائلهم لسبب أو لآخر، وكان قادة الفصائل الذين بالغوا في إبداء رغبتهم في محاربة المتشددين أول من صعد على متن الحافلات الخضراء، دون أن يشفع لهم حماسهم الزائد وسعيهم الصادق في التحول إلى شريك فعال وأمين في الحرب على التطرف والإرهاب في سوريا. 

يعتبر فصيل هيئة تحرير الشام من أكبر فصائل الثورة، تم تأسيسه بعد نكسة حلب وانطلاق مسار أستانا، رفضت بعض الفصائل حينئذ الانضمام إليه لأن جبهة فتح الشام المصنفة على قوائم الإرهاب هي عموده الرئيسي. بعد عام ونصف على تأسيس الهيئة يمكن تقييم حصيلة منجزها الثوري، وحصاد تحديها لوصاية الخارج. وسيرى الجميع من خلال إلقاء نظرة أولية على الخريطة السورية أن البقعة الخضراء شبه الوحيد على الخريطة هي تلك التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، بينما غمر اللون الأحمر قلاع المعتدلين ومعاقلهم. وهي البقعة الوحيدة التي يتم إدارة الشأن العام فيها بواسطة حكومة مدنية تتكون من كفاءات علمية لا تنتمي إلى أي جماعة أو تنظيم، خرجت من رحم مؤتمر عام، وهيئة تأسيسية مستقلة. وهي البقعة الوحيد التي يسع الجميع التعبير فيها عن مواقفهم وآرائهم بكل حرية. وهي البقعة الوحيدة في العالم التي تحطمت على تخومها أسطورة تنظيم داعش، حيت شاهد الكل أكبر عملية استسلام جماعي لعناصر التنظيم المجرم الذين عجزوا عن اقتحام مدينة إدلب بعدما فتحت لهم قوات النظام المنافذ المؤدية إليها. ومازال الجهاز الأمني لهيئة تحرير الشام داخل المدنية ومحيطها يفكك خلاياهم ويقبض على رؤوسهم في زمن قياسي، ربما تفوق في ذلك على الدول التي تملك أجهزة استخباراتية عريقة وموارد مالية وبشرية غير محدودة. فإذا كانت خلية داعشية من عدة أفراد قد دوخت فرنسا مثلا، فكيف بمدينة أحاطت بها الدبابير من كل جانب، وتسربت إليها مئات الخلايا القاتلة. 

هذه المنجزات تضاف إلى السير العادي للمؤسسات الخدمية والتعليمية من مدارس وجامعات، رغم الاضطرابات المدبرة التي تحدث في المدينة من حين للآخر، ورغم رفض بعض الجهات الدفع باتجاه نجاح هذا النموذج المتقدم في التدبير والإدارة زمن الحروب والأزمات. وأنا أتابع حصيلة المنجزات في الشمال المحرر أتذكر عندما طالب أحد المتعقلين بأهداب الاستنارة الكاذبة في فترة من الفترات بحل جبهة النصرة حتى لا توصم الثورة بالإرهاب، وقلت في نفس ترى كيف سيكون مصير الثورة لو شاطر قادة الجبهة حينها هذا " المستنير" بلادته السياسية والاستراتيجية. 

الاسمبريد إلكترونيرسالة