JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

إدلب.. المدينة الفاضلة

 
هيئة تحرير الشام
عبد الغني مزوز---

ترى ما الذي جعل أمواجا هادرة من الناس تخرج في 30 من يونيو 2013 مطالبة بإسقاط الرئيس محمد مرسي، وإنقاذ مصر من الإرهاب و "الأخونة" والقضاء على الإسلاميين الذين أرادوا اختطاف المجتمع والدولة، وكان لافتا أن من بين هؤلاء جموعا من السلفيين والإخوان المنشقين وعلماء الأزهر وخطباء المساجد يدا بيد مع عتاة العلمانيين ورموز نظام مبارك ومشاهير الفن والطرب وسيدات الرقص الشرقي.. حسنا؛ إن الذي جمع كل هؤلاء على صعيد واحد وألزمهم قولا واحدا أن الإخوان المسلمون هم إرهابيون خلص، وأن وجودهم خطر على الثورة ومدنية الدولة، هو نفسه من ينادي في السوريين الآن أن إدلب عاصمة للإرهاب، وإمارة من إمارات القاعدة يجب غزوها وتطهيرها من التطرف والغلو إنقاذا للثورة ورايتها . وليس غريبا إذن لو صاح بهذه المزاعم شيوخ وسلفيون وإخوان وثوار عاطلون ومجالس إفتاء ومن كان إلى عهد قريب يرى في بشار وليا للأمر واجب الطاعة وزعيما يدفع المؤامرات عن بلده.

تنتصب مدينة إدلب كأم حنون يأوي إلى كنفها أيتام الثورة ومهجروها ونازحوها ومن في جوفه رمق من الثورة أيا كان فكره ومذهبه، غير أن البعض لم يرق لهم ذلك فطفقوا يُشعرون ويذكرون "المجتمع الدولي" بكون إدلب تئن تحت وطأة المتطرفين وسيطرة الغلاة و أنها تشكل خطرا آنيا على المنطقة كلها، وأن على الجميع أن يتحمل مسؤوليته في القضاء على تنظيم القاعدة بالمدينة. يترافق مع هذا الخطاب جهود لبث الذعر وإشاعة الخوف بين مواطني المدينة والتلويح بما ينتظرهم من قتل ودمار يفوق ما حصل في الموصل، وكأن قاطني إدلب وفدوا إليها من جزر البهامس وليسوا ممن عاينوا أهوال حلب وحمص ومضايا والزبداني وغيرها من المدن المنكوبة.

لو كنت عديم المبادئ فاقدا للأخلاق وأردت أن تفرض واقعا جديدا يكون بديلا عن واقع قائم، فسيكون عليك أولا أن تخلق صورة ذهنية للواقع القائم تكون حرا في تعديل تفاصيلها وتركيب مكوناتها؛ لتخرج بصورة مزيفة مغشوشة لا تمت إلى الواقع بصلة ثم تروجها بين الناس على أنها انعكاس أمين ونزيه للواقع، وهكذا تستطيع حشد الجماهير ضد واقع لا يوجد إلا في أذهانهم وخيالهم. فمعظم الذين خرجوا في 30 من يونيو لم خرجوا على نظام الرئيس محمد مرسي كما هو كائن بل خرجوا على نظام محمد مرسي كما رسمه إعلام الثورة المضادة في أذهانهم وتمثلاتهم، ولذلك عندما ذهبت سكرة الدعاية وقف الأغبياء على حقيقة ما اقترفوه، ولم يستوعبوا كيف أنهم شاركوا في إسقاط نظام مدني واعد واستبدلوه بنظام دموي عسكري. هذا الذي يحدث الآن مع الثورة السورية ومع إدلب تحديدا، فهناك مدينة إدلب كما هي كائنة، وهناك مدينة إدلب كما تُشيد الدعاية المظللة والفتاوى المشبوهة تفاصيلها وتنسج ملامحها في مخيال الناس وتمثلاتهم.

إدلب كما هي كائنة لا يسيطر عليها المتطرفون، وليست إمارة من إمارات القاعدة، إن الاستخبارات الأمريكي التي تحصي على الجهاديين أنفاسهم، وتقف على كل شاردة وواردة من أخبارهم، على علم بتفاصيل الخلاف بين تنظيم القاعدة وبين جبهة فتح الشام على خلفية فك هذه الأخيرة الارتباط بالتنظيم. لكن منظومة الدعاية الموجهة بحاجة إلى عنصر القاعدة وهو ما ينزل بمنزلة "الأخونة" بالنسبة للحالة المصرية. هناك كم هائل من المعلومات التي يتداولها خصوم هيئة تحرير الشام عن إدلب وما يحصل داخلها ومعظمها لا يخرج عن إطار الدعاية الكيدية التي لا تقوم على أي أساس من الصحة والوجاهة.

ثمة خطابان متمايزان يشغلان الفضاء الثوري في سوريا الآن؛ خطاب السيادة والاستقلال وخطاب الوصاية والاستعمار. الأول يمثل روح الثورة وأهدافها ودواعي انطلاقتها؛ أسس بنيانه على شرعية الاستقلال وأصالة الخيرية والتحرر ووجوب استئناف الأمة لرسالتها الحضارية الخالدة. والثاني يعبر عن نزعة النكوص والإخلاد إلى الأرض والتبعية وارتهان الإرادة وعقم الفاعلية والإفراط في تقدير الغير وتبخيس الذات. وليس صعبا على أي متابع للمشهد السوري أن يقوم بتصنيف مكونات الثورة وفرزها حسب الخطاب الذي تنتمي إليه وتصدر عنه في مواقفها ورؤاها.

يمثل البيان الذي أصدره مايكل راتني مبعوث الولايات المتحدة إلى سوريا في الثاني من أغسطس 2017 وتطرق فيه إلى وضع مدينة إدلب درجة متقدمة في التمايز والمفاصلة بين خطاب الوصاية والاستعمار وخطاب السيادة والاستقلال. لقد صاغ راتني بيانه بلغة وعظية مستخدما ذات المفاهيم والتعابير التي تستخدما فئات محسوبة على الثورة، حتى أن ناشطين حاولوا التكهن بمن كتب البيان وحزروا فعلا بعض الأسماء، هذا إن لم يكن بيان راتني هو الأصل وما يكتبه المحسوبون على الثورة مجرد نقل واقتباس.

الجدير بالتأمل والملاحظة أنه في الوقت الذي تبلور فيه الخطاب الثوري الأصيل وتبنته معظم مكونات الثورة وجسدته في صيغة جسم ثوري ضم فصائل الثورة الكبرى، تبلور أيضا خطاب الوصاية والتبعية والثورة المضادة متجسدا في ذلك التماهي العجيب بين فتاوى دينية ومواقف بعض الفصائل من جهة وبين مواقف دول عظمى لا تُخفي خصومتها للثورة في سوريا من جهة أخرى.

من المؤكد أن مدينة إدلب تعيش أوضاعا أمنية ومعيشية صعبة، وهي أوضاع طبيعية بالنسبة لمدينة تجثم في محيط غير مستقر لا تخمد فيه المعارك والاشتباكات، على مرمى حجر من مستوطنات الدواعش وقلاعهم المرعبة، الذين يرسلون انتحارييهم وأمنييهم إلى المدينة، ولا تبدو بعض عواصم التنوير الأوربي بأحسن حالا من هذه الناحية حتى وهي بعيدة عن معاقل داعش بآلاف الأميال، فحوادث التفجير والطعن والدهس لا تكاد تتوقف فيها، وهي عواصم دول مستقرة يسهر على حفظ أمنها جيوش وأجهزة ومؤسسات متطورة وعريقة.

إدلب لا تخضع لنمط معين من الحكم حتى نكون في موقع يخول لنا تقييمه من الناحية الشرعية والسياسية والفلسفية، وحتى تكون دعوى وقوع إدلب تحت حكم "الجهاديين" وجيهة، بل تخضع لنظام إدارة وتدبير من قبل الفصائل التي حررتها، مع التحفظ على كلمة "تخضع" لما توحي إليه من قسر وجبر عكس ماهو صائر بالمدينة كما يظهر في بيانات الفصائل وشهادات أهلها.

قد لا يروق ذلك للبعض لكن إدلب من المحافظات التي يعيش فيها الناس مع هامش معقول من حرية التعبير وإبداء الرأي وانتقاد من يدير شؤون المدينة، فعلى مدار أشهر طويلة تخرج مظاهرات شبه يومية من بضعة أفراد في معرة النعمان دون أن يتعرض لهم أحد بسوء، مع رفعهم لشعارات قد لا يخول لهم القانون البريطاني رفع مثلها في ساحات لندن. هذه الروح الحداثية ( راجع روح الحداثة و الحداثة والمقاومة للفيلسوف طه عبد الرحمن) تفتقدها دول طال بها العهد وهي تحاول وضع نفسها في سكة الحداثة والتقدم. كما يؤكد الناشطون أنه لا توجد بإدلب سجون سرية، ولم تُسجل بها حالات تعذيب، ولم يتعرض فيها الصحفيون والمعارضون للاختطاف أو المضايقات بشهادة هؤلاء أنفسهم. وكثيرا ما يخضع من يدير المدينة للمسائلة والمحاسبة عند تسجيل تجاوزات منهم.

لماذا إذن تُهدد إدلب بالتدمير ؟ سؤال سيجيب عنه من عرف سبب إسقاط حكم الإخوان المدني الديمقراطي بمصر وقتلهم بالآلف وتحريق جثثهم في الميادين وتغييب من بقي منهم في السجون.


الاسمبريد إلكترونيرسالة