JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

"حرب العصابات السياسية" وسؤال الجدوى

عبد الغني مزوز ---

     في خضم فشل تجارب الإسلاميين في الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، دون أن يستتبع ذلك عداء دوليا وإقليميا ينتهي عادة بإزاحتهم منها إما بانقلاب عسكري أحمر(مصر، الجزائر) أو أبيض(تونس) أو تدخل خارجي؛ إقليمي و دولي (الصومال،أفغانستان) أو حصار اقتصادي وسياسي (غزة)، طرح الكاتب عبد الله بن محمد (شؤون إستراتيجية) فكرة " حرب العصابات السياسية". ملخص الفكرة أن على الإسلاميين تجنب الاستفراد بالحكم، أو ممارسة السياسة بشعارات إسلامية واضحة، بل ينبغي عليهم- في سياق حساسية النظام الدولي المرهفة تجاه كل ما هو إسلامي - الدخول في تحالفات وتكتلات وتمويه هويتهم السياسية، عبر تبني خطاب سياسي يستند إلى مفاهيم وشعارات لا تثير الشبهات " كالحرية " و " العدالة" و"التنمية" و "تحصين الهوية" وغيرها من المفاهيم التي لا تتصادم مع "روح" المشروع الإسلامي ومقاصده، بل يمكن أن ينطوي بعضها على مضمون إسلامي يقع في صميم النظام الإسلامي بنية وخطابا.

استدل الكاتب على وجاهة طرحه بالحالة الليبية، حيث انصهر المكون الإسلامي الجهادي داخل مكونات الثورة الأخرى هناك، وقدم مشروعا سياسيا يقوم على التطبيع مع الدولة الحديثة برصيدها المفاهيمي والإجرائي "كالانتخابات" و "المدنية" و "التعددية" و "التداول السلمي"..إلخ وهو ما فوت الفرصة على المتربصين بالإسلاميين وجردهم من المسوغات التي غالبا ما يلجئون إليها للإطاحة بهم، كما أن الهوية المُمَوهة للمشروع الإسلامي الليبي لا تمنح فرصة أفضل لمن يريد تمييز وفرز " المكون الجهادي المتطرف" عن "المكون الإسلامي المعتدل" وهو الفرز الذي يتوخى ترتيب "الإسلاميين" حسب خطورتهم وفعاليتهم ومدى قابليتهم إما للتوظيف أو الاحتواء أو التصفية كحل أخير، فصيغة التعامل مع الطيف الإسلامي تختلف من مكون إلى آخر، فهنا يتم اجتثاثهم، وهناك يتم التحالف معهم أو توظيفهم.

كانت الحالة الليبية وهي مثار إعجاب الكاتب، تبدو حالة استثنائية من حيث المزج بين أسس المشروع الإسلامي المستند إلى القوة المسلحة، وبين معطيات الدولة الحديثة في بعدها الإجرائي " انتخابات؛ برلمان؛ تعددية؛ أحزاب؛ جمعيات مجتمع مدني؛ إعلام حر..." أي، مأسسة المشروع الإسلامي و دسترته. وتعززت الاستثنائية الليبية عندما تَمكن الإسلاميون من تجاوز خلافاتهم وبناء تحالف وإن لم يكن متماسكا إلا أنه حال دون حدوث أي صدام بين مكونات التيار الإسلامي بشقيه الجهادي والسياسي. 

لا شك أن الحالة الاستثنائية الليبية، هي حالة انتقالية، ظرفية، لا تعكس استقرارا مجتمعيا ولا نضوجا سياسيا، بل تعني أول ما تعنيه أن النظام الدولي منشغل عن الملف الليبي بملفات أكثر سخونة استغرقت جهده وتركيزه، و أن خصوصية الحالة الليبية تستدعي مقاربة خاصة من سماتها: التأني، وطول النفس، وامتحان نيات الفرقاء، عبر جولات الحوار الطويلة وتعاقب المبعوثين، ريثما تكتمل عملية الفرز وتُصنف مكونات الطيف الإسلامي على شكل جدول من خانات ثلاث ( قابل للإحتواء ـــــــ قابل للتوظيف ـــــــــ يجب تصفيته ). وهو ما حصل، حيث تبدو التجربة الليبية طافية على رمال متحركة، واستطاع المكر الدولي خلط الأوراق، وتفكيك تحالف القوى الثورية الإسلامية، عبر خطة بالغة الذكاء، أشبه ما يكون بعملية تصفية المعادن، فعندما يُستخرج معدن الذهب مثلا يكون عبارة عن كثلة متماسكة من أكثر من معدن، آخذة شكل صخرة صغيرة، فتمرر الكتلة على مجموعة من الأحماض والمحاليل تقوم بفرز مكونات الكتلة وفصلها عن بعضها البعض، لتنهي العملية بترسب معدن الذهب في ناحية، والحديد في ناحية، والنحاس في ناحية.. كل معدن متمايز عن غيره. وهو عين ما حدث في ليبيا، إذ كان الإسلاميون كتلة واحدة، وعبر جولات الحوار والأخذ والرد بدأت الكتلة بالانشطار، وبدأ "المعتدلون" يتمايزون عن "المتشددين" والأكثر اعتدالا عن المعتدلين، والأكثر تشددا عن المتشددين، ولعل وثيقة الوفاق التي وقع عليها الفرقاء في الصخيرات المغربية هي أكثر " المحاليل" فعالية في تفتيت الكتلة الإسلامية، وإحالتها إلى مكونات متمايزة، حيث ضمت بنودا مستفزة، صيغت بعناية فائقة، بحيث لا يقبل بها سوى " معتدل فما دونه" ولا يرفضها سوى " متشدد فما فوقه". وقد تحدث عن هذه المواد والبنود مبينا بطلانها ومخالفتها لقطعيات الشريعة، مفتي الديار الليبية الشيخ الصادق الغرياني، كالبنود التي تتحدث عن التحاكم إلى المبعوث الدولي، ومحاربة الإرهاب وغيرها... 

وهكذا تفتت الصف الإسلامي، وتم ملء الجدول ذو الخانات الثلاث، ودخلت حكومة الوفاق إلى طرابلس تحت سيف النظام الدولي الذي فرض عقوبات صارمة على كل من يعرقل عمل الحكومة أو يرفض التعامل معها، وذهبت توصيات دار الإفتاء الليبية أدراج الرياح، ولم تنفع بعض المظاهرات التي رفعت شعارات الرفض لـ " حكومة الوصاية الدولية " من إنفاذ الإرادة الدولية، والمسألة مسألة وقت فقط قبل أن تتوجه القوات " الحكومية" المدعومة دوليا إلى معاقل الإسلاميين في درنة وبنغازي لإخضاعها والسيطرة عليها، كما تنص بنود وثيقة الوفاق.

إذن، فنظرية " حرب العصابات السياسية " لم تُسعف إسلاميي ليبيا في البقاء في السلطة، ولم يكن النموذج الليبي دليلا على نجاعة النظرية بقدر ما كان محفزا على طرح أسئلة وجيهة حول جدواها، وإمكانية اللوذ بها في سياق الحرب الصفرية التي تُشن على تجارب الإسلاميين السياسية، وأن الرهان على غباء المنظومة الدولية رهان خاسر.

عملية الفرز والتصفية لمكونات الطيف الثوري، حدثت في سوريا كما حدثت في ليبيا، حيث كان الحديث عن تصنيف المعارضة بين معتدلة وغير معتدلة الشغل الشاغل للفاعلين الدوليين، ومحور النقاش في أروقة الاجتماعات في شتى عواصم العالم، كل هذا حتى يكون الغرب على بينة من الذين سيُعهد إليهم بإدارة البلد بعد بشار الأسد. لقد استُبعدت جبهة النصرة كمرحلة أولى في عملية الفرز دون الحاجة " لمحاليل " خاصة، لأن هوية النصرة واضحة للجميع وولائها للقاعدة لا يدع أي هامش للأخذ والرد أو شفاعة الشافعين، واستُدعي الطيف الثوري المعتدل إلى مؤتمر الرياض من أجل ترسيم المعارضة ومأسستها، وهنا سيحتاج السيد ستيفان ديمستورا المبعوث الدولي إلى سوريا " لمحلول " أكثر تركيزا لشفط آخر الزوائد المتشددة عن كتلة المعارضة المعتدلة، ليحصل على معارضة معتدلة خالصة، ولم يكن بحاجة إلى أكثر من وثيقة تتضمن عددا من الأسئلة المحرجة والمستفزة، لكن على الجميع الإجابة عليها كاختبار أخير قبل نيل درجة " الاعتدال" وحيازة صك البراءة من الإرهاب والتشدد. 

الوثيقة تضمنت الكثير من الأسئلة وحملت عنوان (أسئلة عن الحكم) وجاء في أول سطر منها " يشير قرار مجلس الأمن 2254 إلى (حكم ذي مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية) وترمي الأسئلة العامة التالية إلى تمكين المبعوث الخاص إلى سوريا من فهم وجهة نظركم الأساسية لمفهوم الحكم هذا". ثم جاء السؤال الأول بالصيغة التالية " ما فهمكم لتعبير الحكم في سياق القرار 2254 ؟ ثم تتالت الأسئلة حول مختلف جوانب الحكم وممارسة السلطة من قبيل: كيف يمكن ضمان الطابع غير الطائفي للحكم؟ و كيف يمكن على وجه الخصوص ضمان تمثيل النساء في الحكم؟ وغيرها من الأسئلة المنقاة بدقة ويمكن الرجوع إليها في الوثيقة. 

هذا " المحلول" النهائي أسفر عن ضبط " أحرار الشام " متلبسة بشيء من التشدد، وبالتالي رسوبها في اختبار كشف "الاعتدال" فانسحبت من المؤتمر مبدية موقفها من مخرجاته في بيان رسمي.

يدرك عقلاء الحركة الإسلامية ومثقفوها، كما يدرك أساطين النظام الدولي وسدنته، أن ثمة فيتو دولي يحظر تأسيس نظام إسلامي على ظهر هذه البسيطة، وهذا كامن في صميم " عقيدة النظام الدولي" الراسخة، وحديثنا عن النظام الإسلامي ليسا حديثا عن نظام الحدود والتعازير وبتر الأطراف، أو نظام فلكلوري هزلي ببهارات إسلامية، أو نظام وظيفي أمني قائم على شرعية المعتقل الرهيب و القوة المميتة.. كلا؛ بل حديث عن نظام إسلامي يتحدى قوى الجبر والتسلط العالمية، ويعيد استدعاء الفكرة الإسلامية النابذة لنزعات الاستغلال والقهر واستنزاف مقدرات الشعوب وثرواتها و المصادرة لحرية الإنسان وكرامته، وبالتالي، نظام إسلامي لا يقف على أية أرضية مشتركة مع دوائر التصهين والرأسمالية العالمية، ومؤسساتهما المختلفة. بما هي دوائر و أدوات معادية للإنسان وشروط وجوده وامتداده. 

العقل الإسلامي ما فتئ يفكر في وجوده ومصيره مع نظام دولي وضعه في رأس قائمة ألد أعدائه، هل يناور ؟ هل يواجه؟ هل ينسحب؟ هل يُخاتل؟ أو على الأقل هذا ما كان محور التفكير الجهادي في فترة من الفترات، قبل أن يَحسم فكريا واستراتيجيا مع المسألة بصدور كتاب " دعوة المقاومة الإسلامية العالمية" عام 2004.

بعد الاجتياح الأمريكي لأفغانستان عام 2001 وسقوط نظام الإمارة الإسلامية، تفككت القوة الجهادية في أفغانستان وانحازت إلى المنافي الملاذات الآمنة أو تم تقسيطها على المعتقلات الرهيبة، وكانت الأسئلة الجوهرية التي ظلت ماثلة أمام الأنتلجانسيا الجهادية آنئذ هي : هل يمكن الحديث عن حكم إسلامي في زمن نظام دولي تديره أمريكا؟ وإذا كانت هذه الأخيرة قد فرضت حظرا على قيام أدنى محاولة لتفعيل "الحكم الإسلام" بصيغة دولة مكتملة الأركان والشروط فكيف يمكن تجاوز هذا الحظر ؟ وبعبارة أكثر دقة وتحديدا؛ كيف يمكن هزيمة أمريكا كي يتسنى للمسلمين تأسيس دولتهم،وفرض وجودهم؟

يتحدث بروفسور الحركة الجهادية عمر عبد الحكيم (أبو مصعب السوري) عن نفسه إبان لحظة سقوط الإمارة الإسلامية بأفغانستان، بعد الهجوم الأمريكي المدمر عليها، فقال بأنه كان متأكدا أنه بصدد منعطف حاسم في تاريخ الإسلام بله الحركة الإسلامية، و أنه قرر الاعتكاف و ممارسة التفكير والقراءة والكتابة فقط والامتناع عن أي نشاط آخر، من أجل إعادة تقييم ونقد حصيلة المنجز الإسلامي الجهادي وقراءة تجارب الحركات الإسلامية والثورية حول العالم، والخروج بنظرية متماسكة وناجعة لتأطير الفعل الجهادي والمضي به في عالم ما بعد سبتمبر حيث الصراع معولم، و أبعاده الدينية والحضارية سافرة. وبعد ثلاث سنوات من العزلة من 2001 إلى 2004 خرج أبو مصعب السوري من معتكفه مقررا استئناف العمل الميداني بعد أن انتهى من صياغة "سفره الثوري" الضخم " دعوة المقاومة الإسلامية العالمية" وقد تتبع فيه خطوط الصراع من قابيل و هابيل إلى الحملة الأمريكية على أفغانستان، معرجا على كل تجارب الحركات الإسلامية بالعرض و النقد والتحليل ليخلص في النهاية إلى أن المواجهة المسلحة عبر أسلوب " حرب العصابات" وتوسيع مساحات المواجهة وحشد الأمة وتفعيل استراتيجية المقاتل المنفرد هي الكفيلة بإنهاء هيمنة الغرب على البلاد الإسلامية وتحريرها من وصايته واحتلاله.

الثابت، أن 12 سنة مرت على نظرية أبي مصعب السوري، ولم تُتوج بعد بــ" حكم إسلامي"، وإن وضعت الرأسمالية عام 2008 على حافة الانهيار، لكن الثابت أيضا أن 90 سنة مرت على بدائلها دون أن تظفر بلحظة انتصار واحدة، بل ينتقل أصحابها من إخفاق إلى آخر، ومن عهدة ديكتاتور راحل إلى آخر وافد، حتى عندما ثارت الشعوب وأزاحت بعض المستبدين ووضعت زمام الحكم في يد الإسلاميين أعاد هؤلاء الحكم إلى زمرة المستبدين وفلولهم، وانخرطوا من جديد في دائرة التيه اللامتناهية، في تجسيد تراجيدي مؤثر لأسطورة سيزيف اليونانية، حيث الضياع واللاجدوى والعبثية تحف الإنسان وتصرع وجوده.


تابعني على تويتر 
https://twitter.com/mazoz_abdlghani

الاسمبريد إلكترونيرسالة