JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

هاجر.. لكن ليس كذلك


أحمد أبا زيد ---

تابعت الانتشار الواسع للـ "فيلم" القصير "هاجر"، والذي قدمته الأخت سيرين حمشو، مرفقاً بعبارة:
"
إعادة تعريف مفهوم الوطن والغربة من وجهة نظر إسلامية.
"
ومع الاحترام للسيدة سيرين، ولمن عملوا على الفيلم ورسالته، والمعجبين به، فما يدعوني للتعليق على الأمر ليس الفيلم بحد ذاته، لو أنه تم تداوله كرسالة دعوية إسلامية ضمن أساليب الدعوة الحديثة، وإنما أن المقدمة والعاملين على الفيلم سوريون في أمريكا، وانتشر أيضاً بين أصدقاء سوريين، ويتحدث عن الهجرة باعتبارها خلقاً جديداً ممكناً للإنسان واستعادة لهجرة النبي إلى المدينة وتركه لوطنه مكّة، لأجل قضية أسمى.
ثمة تزييف مركّب في هذه الرسالة التي لا تكتفي هنا بترير الهجرة في ظرف الثورة، وهذا أمر يمكن تقبّله كخيار شخصي أو الصمت عنه نظراً لظروف الناس، وإنما بتزيينها كيوتوبيا منتظرة، واعتبارها سنّة نحاكي بها قصة النبي نفسه وتأسيسه الإسلام.
لم يهاجر رسول الله من مكة إلى روما أو الإسكندرية، وإنما هاجر ضمن الجزيرة العربية نفسها، وطن العرب وفضائهم الجيوسياسي المتصل، سافر ضمن أرض المشروع نفسه، إلى قاعدة تأسيس وانطلاق مناصرة له يمكن استكمال "ثورته" الدينية منها, لم تكن الرؤية الإسلامية للإنسان والعالم -والتي هاجر الرسول إلى المدينة لاكتساب أنصارها- مجرد مثل نظرية مكتفية بنفسها، وإنما ارتبطت بمشروع حركي عسكري وسياسي واجتماعي، ولم تكن تأسيساً في عالم جديد، وابتعاداً عن "الوطن" أو هجرة عن "المشروع"، بل كانت هجرة إليه في الحقيقة.
في المعارك الأخلاقية الكبرى، في هذه اللحظات التاريخية النادرة التي تقتح للإنسان أفق التغيير، لا تكون الهجرة النبوية هي الهجرة عن الواجب الأخلاقي والديني والوطني القريب والمباشر والبدهي إلى عوالم بعيدة يمكن لنا فيها تقديم شكل من الخير، وإنما الهجرة إلى الواجب.
إن الظرف الوحيد المشابه لهجرة رسول الله وصحابته إلى المدينة، هي هجرة آلاف الثوار من مناطقهم التي يحتلّها النظام -أو من المنافي- إلى المناطق المحررة، لاستكمال رسالتهم ومشروعهم، الذي ينزف دماً كلّ يوم في عالم ليس أنيقاً ولا جميلاً مثل مانهاتن بالضرورة، ولكنه عالمهم.
هؤلاء الآلاف، بل عشرات الآلاف، تركوا أهلهم وأعمالهم ودراستهم وزوجاتهم وحبيباتهم، لأنهم لم يستطيعوا تجنّب الصوت العالي الملحّ لنداء الواجب الأخلاقي، لنداء الدم.
إن إلغاء مفهوم الوطن، (كانتماء وحنين فطري في الإنسان لا كهوية مسيّسة بالضرورة)، واعتبار ان التخلي عنه مفهوم إسلامي، مشابه لخطاب داعش عن الوطن كوثن، وعن التعامل مع الإنسان كآلة من بعد واحد، تلغي انتماءاته وأبعاده الروحية والنفسية والاجتماعية، لم يحارب رسول الله انتماءات الناس إلى أوطانهم -الصغيرة أو الكبيرة- ولا إلى عوائلهم وعشائرهم، في غزوة الخندق رفض أهل المدينة اقتراح النبي بمنح ثمار المدينة لغطفان، لا لمصلحة اقتصادية، وإنما لأن ذلك يمسّ كرامة المجتمع المدني، وفي فتح مكة وزّع الرسول كتائب جيشه وراياته على أسماء القبائل.
لقد انبنى الإسلام كعالمية وأممية ممكنة من خلال هذا التضامن المحلّي والتراحم الإنساني الفطري ودمجه بالرسالة الأخلاقية الكونية للإنسان المسلم، لا بالقطيعة مع هذه التراحمية ومحاربتها، وجعلها ندّاً للإسلام نفسه، في الحقيقة فالتأويل الظاهري المنتشر للدين (لا للفقه) يضع الدين في مواجهة الإنسان، كما أن مآلات هذا الفيلم أن تضع الدين في مواجهة الثورة.
انتشرت موجة الهجرة بين السوريين، وبين الحواضن الشعبية للثورة تحديداً، ولم يقتصر ذلك على نساء وعوائل، وإنما على حاملي هذا الحراك الثوري من الشباب.
في زمن الهزيمة يصبح التخلّي عن الوطن المنكوب للأنذال خياراً ممكناً، بل درس دين وقصيدةَ شعر فوق ذلك.
تجنّبت طويلاً الحديث عن هذا الموضوع، تقديراً منّي لأصدقاء أعرفهم وأحترمهم أصبحوا في ديار الآخرين، وأعرف ما بذلوا وما قدّموا وما ضحّوا به لأجل الثورة، حتى لا يعتبروا أن كلامي مزايدة بحقّهم أو بحقّ أيّ أحد، وأنا أعلم أنني لم أبذل قليلاً مما بذلوا، عدا عن أن كثيراً منهم يقدّم للثورة في مكانه أكثر من شباب كثيرين في الداخل، وهم داخل الثورة وإن كانوا خارج الوطن.
ولكن تزيين الهرب، واعتباره تضحية وثورةً وديناً، أضحى سردية مظلومية وبطولة منتشرة تكاد تطغى على صوت الثورة كما هي في الأرض، وكأن ثوار هذه الأرض أضحوا هم الاستثناء المهمّش والذي يقع عليه لوم الجميع بمعاناة الآخرين في التراجيديا السورية.
آلاف من الناس، يضعون أموالاً تكفيهم للعيش سنين في سوريا أو المنافي القريبة، ليرموا انفسهم وأبناءهم ونساءهم إلى عصابات الصحراء ومقابر البحر ومذلّة الشواطئ، هرباً نحو إعالة، ليس في الأمر بطولة، ولا هو هرب من الموت إلى الموت، لا موت في عنتاب أو عمّان أو القاهرة، وفائض الشجاعة لدى الشباب تحديداً كان ثمة له ساحات أولى.
ثمة محتاجون ومضطرون لعلاج أو مأزق أمني أو غيره، وثمة من سدّت أمامهم منافذ الإفادة وهم يبدعون ويقدّمون الكثير في أماكنهم، وثمة من هُجّروا بالإكراه حقّاً، ليسوا هم من ألوم هنا، ونحن كثوّار وفصائل نتحمّل وزر كثيرين لم يجدوا في المناطق المحرّرة بيئة حرية وخدمة وإبداع حاضنة لهم، وتكفل لهم الحدّ الأدنى من الأمن والقدرة على العمل والإفادة، وهذا ما لم نتعلّم منه، وما زلنا ماهرين في استعداء الأصدقاء.
نحن لسنا في زمن العاديّ، لذلك فالمطلوب من الجميع هو الاستثناء، لا أقلّ، ولو لم يستطيعوا فلن نجرّم أحداً على حدود قدرته أو ضميره أو اهتمامه، ولكن ليست مهمّتنا نحن كثوّار أن نتغنّى بمن يترك الوطن المنكوب الدامي، والذي ينقص كلّ يوم بكلّ شهيد يهوي/يعلو ليأخذ محلّه جنود الأعداء.
أعتذر مرة أخرى من أصحاب العمل، ومن كلّ من يشعر أن الكلام قد يمسّه أو يؤذبه، ليس القصد هنا المزايدة بحقّ أحد، وكلّ إنسان أدرى بما قدّم وبما يقدّم حيثما كان, ولا يحتاج شهادة منّي أو من أحد، ولكن علينا أن نقاوم حتى لا يكون الاستثناء بالنسبة للسوري أن يكون في سوريا، وألّا يكون الاستثناء للثوّار أن يبقوا ثوّاراً في أرضهم.
الاسمبريد إلكترونيرسالة