JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

ترياق داعش بيد جبهة النصرة

جبهة النصرة

عبد الغني مزوز---     

ربما لم يدر بخلد أحد السؤال التالي على أهميتة في تفسير ظهور تنظيم الدولة وامتداده، وهو كيف استطاعت الجماعة الصغيرة التي أسسها أبو مصعب الزرقاوي في 2003 الصمود كل هذه الفترة الطويلة والتحول لاحقا إلى أكبر تنظيم مسلح استطاع هزيمة جيوش بأكملها بينما اختفت وتبخرت جماعات وتحالفات جهادية كانت أكبر من مجموعة الزرقاوي عددا وعتادا وانتشارا، إذ من بين عشرات بل مئات الجماعات والفصائل والكتائب التي ظهرت إبان الإحتلال الأمريكي للعراق وبعضها كان بمثابة فصائل وتجمعات جهادية كبيرة، لم يبق من كل تلك الفسيفساء الجهادية التي كانت تنشط على طول العراق وعرضه سوى المجموعة الصغيرة التي أسسها أبو مصعب الزرقاوي مع رفيق دربه أبو أنس الشامي.؟ ما سر هذا الصمود؟ ولماذا عجزت الجماعات والكيانات الأخرى على حفظ وجودها، مع ما يحضا به بعضها من دعم إقليمي؟  والى أي مدى يمكن أن تُعاد تجربة العراق على الساحة السورية؟ مع ظهور جماعات بنفس البناء الأيديولوجي والتفكير السياسي بل ونفس الأسامي أيضا.

كانت جماعة التوحيد والجهاد التي أسسها أبو مصعب الزرقاوي في 2003 تعمل في العراق ضد القوات الأمريكية والقوات العراقية المتحالفة معها، كما تفعل جماعات أخرى، فقد كان العراق يعج بعشرات الفصائل ذات المشارب الفكرية والأيديولوجية المختلفة، غير أن الطابع السلفي هو السمة الغالبة عليها، مع حضور قوي للفصائل ذات التوجهات الوطنية مثل كتائب ثورة العشرين و جبهة جامع، انخرطت الفصائل الجهادية في دينامكية من التحالفات والتكتلات، كل مع الفصيل الأقرب إليه، ليسفر مشهد المقاومة العراقية عن سرديات جهادية واضحة، فالسلفية الجهادية متمايزة بفصائلها (تنظيم القاعدة، جماعة أنصار الإسلام، جيش أبو بكر الصديق السلفي، عصائب العراق الجهادية، وفصائل أخرى صغيرة) والسلفية الحركية متمايزة بفصائلها ( الجيش الإسلامي في العراق، جيش المجاهدين، أنصار السنة الهيئة الشرعية، جيش الفاتحين، جيش الراشدين، وتجمعات أخرى ) والتوجه الوطني والإخواني متمايز بفصائله (  الجبهة الإسلامية للمقاومة العراقية، حماس العراق، كتائب ثورة العشرين..). هذه الكيانات الجهادية ستدخل لا حقا في تحالفات على شكل جبهات موحدة ومكاتب سياسية. 

أبو مصعب الزرقاوي قرأ المشهد العراقي جيدا وعلى خلاف معظم قادة الفصائل فقد سجل في مفكرته ملاحظات حول خريطة الأعداء الذين ينبغي سحقهم دون هوادة، لم تكن قوات التحالف فقط ضمن بنك أهدافه، إذ كان المشروع الجهادي الذي تصوره الزرقاوي في العراق كبيرا فاق كل إمكانياته، وإذا أخد في الإعتبار عشرات المشاريع الجهادية الأخرى في الساحة فإن فرص نجاح مشروعه تتضاءل، فما هي الخيارات التي كانت متاحة أمام الزرقاوي لرفد مشروعه الجهادي وحقنه بعناصر القوة و التحدي، بحيث يستطيع الصمود في غابة من الأعداء والخصوم والمنافسين؟    
في حقيقة الأمر لم يكن الزرقاوي يحتاج سوى لإجراء رمزي، يكفل له ريادة العمل الجهادي المقاوم في العراق، ويضع مجموعته الصغيرة في صدارة الفصائل العسكرية الضاربة هناك، هذا الإجراء لم يكن سوى بيعة أسامة بن لادن والإرتباط بتنظيم القاعدة. فأمام السرديات الجهادية الناشئة في العراق لم يكن أمام الزرقاوي من خيار سوى تقديم مجموعته الصغيرة كامتداد لسردية جهادية تتجاوز نظيراتها من الناحية الشرعية والتاريخية والرمزية. فقام الزرقاوي بإرسال تقرير مفصل حول الوضع في العراق إلى أسامة بن لادن وعرض في ثناياه رؤيته للصراع وعزمه على خوض حرب واسعة وشامله ضد جميع المناوئين للمشروع الإسلامي السني وفي مقدمتهم القوات الأجنبية وحلفائها، وفي القلب منهم الشيعة المحاربين، بعد نقاش طويل مع بن لادن توافق الطرفان على أرضية مشتركة مع ترحيل نقاط الإختلاف وعدم الحسم فيها إلى حين، (نقاط الإختلاف هذه أفرزت لاحقا ظاهرة داعش).

الزرقاوي يدرك تمام الإدراك أن بن لادن لا يستطيع أن يدعمه بالسلاح والعتاد ولا أن يرفده بالرجال المقاتلين كما لا يستطيع أن يرسل له أموالا تغطي نفقات حربه الشاملة التي تلهب العراق من شماله إلى جنوبه، لكنه يدرك أن رمزية الإرتباط بالقاعدة سيوفر له كل ذلك وأكثر ، وقد اعترف العدناني لا حقا بهذه الحقيقة في سياق رده على الظواهري وأنه لم يأتهم دعم مادي من تنظيم القاعدة فقال في رسالته التي تحمل عنوان "عذرا أمير القاعدة" : " لم تسألنا يوماً -ومَن قبلَك-: كَم عدد جنودكم؟ ما هو سلاحُكم؟ من أينَ تمويلكُم؟ من أين تتسلّحون؟ هل عندكم ما تأكلون؟ مَن هُم أُمراؤكم؟ مَن هُم وزراؤُكم، وُلاتُكُم، قُضاتُكم، عُلماؤكم؟ ما هي مشاكلكم؟ ما هي مُعاناتكُم؟ قُل لي بربّك: ماذا قدّمتَ للدولة إن كُنتَ أميرَها؟ بماذا أمدَدّتها؟ عَن ماذا حاسبتَها؟ بِمَ أمرتَها وعمَّ نهيتَها؟ مَن عزلْتَ ومَن وَلّيتَ فيها؟ لم يحدث شيءٌ من هذا أبداً ". صحيح لم يكونوا يتلقوا أي دعم مادي مباشر من تنظيم القاعدة لكن معظم من دعموهم ماديا فعلوا ذلك باعتبارهم فرعا لتنظيم القاعدة، ولما اكتفى تنظيم الدولة ماديا و رمزيا قطع علاقته بتنظيم القاعدة. وعندما سأل أحمد منصور الجولاني في برنامج بلا حدود عن مصادر تمويل جبهة النصرة أجاب بأن المسلمين يدعمونها لأنهم يحبون تنظيم القاعدة. 

كان حجم تنظيم القاعدة في العراق إبان قيادة الزرقاوي له صغيرا جدا مقارنة بفصائل أخرى كانت تحضا بدعم إقليمي تحث لافتة "المقاومة الشريفة" تماما كما تحضا به من يطلق عليها اليوم في سوريا  فصائل "المعرضة المعتدلة"، ومع حجم تنظيم الزرقاوي الصغير كانت مشاركته في فعاليات المقاومة العراقية قوية ومؤثرة. وفي مسعاه لتعزيز قوة وحضور الخطاب السلفي الجهادي داخل المقاومة العراقية شكل الزرقاوي بمعية ست فصائل أخرى في يناير 2006 مجلس شورى المجاهدين بقيادة عبد الله رشيد البغدادي، غير أن هذه الخطوة وإن كانت ناجحة على صعيد بناء جبهة سلفية جهادية موحدة إلا أنها لم تغير من حجم الجماعات والكيانات على الأرض، ففي مقابلة مع د.إبراهيم الشمري الناطق الرسمي باسم الجيش الإسلامي في العراق مع شبكة البراق صرح في معرض جوابه عن سؤال حول رفض الجيش الإسلامي الانضمام إلى مجلس شورى المجاهدين، صرح أن الجيش الإسلامي أكبر حجما من مجلس شورى المجاهدين وأن هذا الأخير هو الذي ينبغي له أن ينضم إلى الجيش الإسلامي.

لم تمض سنوات قليلة حتى اختفت تماما كل تلك التشكيلات والجبهات الجهادية الكبيرة، ولم يبق في الساحة سوى المجموعة الصغيرة التي أسسها  أبو مصعب الزرقاوي، حيث استطاعت البقاء والصمود بسبب تبنيها لخط جهادي تجاوز المعطيات والإعتبارات الوطنية ورهانات الداعمين و دول الجوار، ولما مثلته رمزية الإرتباط بتنظيم القاعدة من أهمية كبرى وسمعة وفرت عوامل الجذب والتأثير، ولديناميكيتها التي حررتها من الجمود والركود، فمن جماعة التوحيد والجهاد إلى تنظيم القاعدة إلى مجلس شورى المجاهدين إلى دولة العراق الإسلامية إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام إلى الدولة الإسلامية إلى الخلافة الإسلامية مع الإنحرافات المهولة التي طبعت هذا المسار خصوصا مع ولاية البغدادي الثاني.
في سوريا تبدوا إرهاصات استنساخ التجربة العراقية بادية للعيان فالسرديات التي تحدثنا عنها في بداية المقال سجلت حضورها كلها ( الإخوان بفصائلهم، السلفية الحركية بفصائلها، السلفية العلمية بفصائلها، السلفية الجهادية بفصائلها ) و الغريب أن الأسامي حاضرة أيضا و الفرز الذي كان سائدا في العراق على أساس " المقاومة الشريفة والمقاومة غير الشريفة"  حاضر كذلك بصيغة " المعارضة المعتدلة والمعارضة غير المعتدلة"  كما لم يغب في المشهد اللاعب الأساسي "تنظيم القاعدة" .

هل كان أبو محمد الجولاني غبيا عندما سارع إلى الارتباط بتنظيم القاعدة في اللحظة التي فاصل فيها تنظيم الدولة الإسلامية، هذا ما يعتقده أكثر المراقبين والمعارضين، لكن ماذا لو كان ذلك الإجراء الرمزي بمثابة الضربة التي لفض بها البغدادي الثورة السورية التي كان على وشك ابتلاعها. كان البغدادي مستعدا للزحف على سوريا ولم يكن هناك من قوة تستطيع ردعه، وكما نجح في احتكار الفعل المقاوم في العراق والوصاية على الوجود السني هناك، سينجح بالتأكيد في احتكار الفعل المعارض في سوريا والوصاية على أغلبيتها السنية دون عناء. تجريد تنظيم الدولة من رمزية الإرتباط بالقاعدة لصالح جبهة النصرة حرمه من امتيازات كبيرة كان يتمتع بها، ولم يكن أمامه بعد ذلك سوى تخريب هذه الرمزية والطعن فيها عبر  إصداراته المرئية ورسائل قادته خصوصا العدناني، كما اضطلعت مجلة دابق بالجزء الأكبر من هذه المهمة. 

لو لم يسحب الجولاني بساط القاعدة من تحث أقدام البغدادي لحول سوريا في وقت قياسي إلى ولاية خالصة له، فإذا كان تنظيم الدولة يسيطر على نصف سوريا الآن ويتحين الفرص للتمدد أكثر فأكثر ، فكيف سيكون حاله لو لم تنفصل عنه جبهة النصرة وتبايع القاعدة وما استتبع ذلك من دعم المسلمين للنصرة حد الاكتفاء الذاتي باعتراف الجولاني، كما أن جبهة النصرة (القاعدة) حرمت تنظيم الدولة من الإستفراد بعنصر المهاجرين وما يُعرفون به من قوة وبسالة قتالية على اعتبار أن معظمهم جاء للموت في سوريا. 

الخطاب الجهادي الصلب والمغلق الذي يتبناه تنظيم الدولة لن يقف في وجهه سوى خطاب جهادي يوازية في الصلابة ويفاصله في الإنغلاق، بانفتاحه على كل الفاعلين في ساحة الفعل الثوري من خلال البحث عن صيغ شوروية ترشد الفعل وتقود المسيرة، وباستثناء عبد الله عزام وأسامة بن لادن لم تستطع الحركة الإسلامية ومفكروها بناء هكذا خطاب بهذه الصلابة والإنفتاح والفعالية. وبالتالي ظاهرة داعش وخطابها وقوتها العسكرية، لن تجابه إلا بخطاب إسلامي متماسك، وقوة عسكرية ضاربة، ليس من ضمنها طبعا ضربات قوات التحالف التي تزيد من شراسة التنظيم وتُؤمن له من الشرعية الشيء الكثير.

المدرسة السلفية الجهادية باقية هذه حقيقة على الجميع أن يقتنع بها، لكن يجب الحيلولة دون اعتقاد أن داعش هي من يمثلها، وهذه حرب أفكار بالدرجة الأولى، لن تقضي على داعش ما لم تجردها من شرعية تمثيل المكون السني في العراق وسوريا، وما لم يتضح لعناصرها أنهم امتداد لفكر الخوارج، وعندما يتحدث المعارضون والمفكرون عن جبهة النصرة على أنها جزء من داعش فإنهم بذلك يحرمون أنفسهم من فرصة كبيرة للقضاء على داعش، جبهة النصرة مرتبطة بسردية جهادية صلبة، دورها سيكون مركزيا وأساسيا في القضاء على تنظيم الدولة، وهي لا ترى في نفسها ممثلا للثورة بل مكون من مكوناتها.

 داعش امتداد لتنظيم تلي بيانه الأول عام 37 ه أثناء حرب صفين مُصدرا بقوله تعالي:" إن الحكم إلا لله" وتوالت بياناته حتى يومنا هذا و الآية نفسها تتصدرها، فباسمها سفكت ولا تزال تسفك الدماء. وكلما نجح العلماء في تفسير معنى الآية الصحيح كلما ضمر التنظيم واختفى، وكلما ران الجهل على العقول واستفحل الظلم كلما نضجت فكرة الخوارج واستوى سوقها، وكانت الحاجة بالتالي ماسة لمن يعيد تفسير نفس الآية تفسيرا منضبطا ببيان مراد الله منها، لقد حاور بن عباس الخوارج وهو ترجمان القران فصحح معنى الآية لهم فتاب فقط بعضهم، ليبقى منهم من يحمل لواء الخوارج ليورثوه جاهل عن جاهل.
 مؤخرا سجل تحرك إيجابي على صعيد الحرب الفكرية والشرعية ضد تنظيم الدولة عندما انحازت الفصائل المحايدة إلى الصف الداعي لقتال التنظيم بعد صدور فتاوى بهذا الصدد من مرجعيات التيار الجهادي، وهي خطوة كبيرة ستساعد في حصار التنظيم فكريا وشرعيا في أفق القضاء عليه وتخليص العالم من شره.   

إذن يجب الوعي جيدا بالمساحات التي يتحرك فيها تنظيم الدولة والبيئة التي تمده بعوامل البقاء والصمود، العراق كان تربة غنية بالعناصر المغذية للتنظيم، فصائل كبيرة انهارت وتفككت بسبب عدم إدراكها للواقع وانجرارها خلف ألاعيب الإحتواء و متاهات الدعم المؤسس على الفرز بين مقاومة شريفة وأخرى غير شريفة. بنفس الأدوات أعيد حبك نفس الخطة لسوريا وإن بصيغ متباينة تضع المعتدل مكان الشريف والمعارضة مكان المقاومة، إنه نفس الجحر والحية نفسها واليد الملدوغة ذاتها. وبكل أسف فاتورة الأخطاء لن يدفعها سوى شعب مشرد و بلد مدمر ونهضة مؤجلة.  


الاسمبريد إلكترونيرسالة