JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

الجهاديون والأخدود المنتظر

عبد الغني مزوز---

يحلو لأبي مصعب السوري مفكر القاعدة وأحد مؤرخيها أن يصف المرحلة التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر ودخول قوات التحالف إلى أفغانستان وانحسار نفوذ طالبان والمجاهدين العرب بأخدود سبتمبر . ذلك الأخدود الذي ابتلع مكاسب الجهاديين وقضى على معظم قيادات الصف الأول فيهم , وحرمهم من مواطن اللجوء, وانخرط النظام الدولي في حرب شعواء على ما يسميه بالإرهاب لم تبق ولم تدر.

 كانت أبرز معالم هذه المرحلة فتح سجون ومعتقلات رهيبة خارجة عن أي مساءلة قانونية وقضائية وحقوقية, وتدخلات واجتياحات عسكرية لدول متهمة بدعم وإيواء الإرهاب, وطائرات بدون طيار تجوب أجواء الدنيا لتقل من تشاء وقتما تشاء ولو كان في أقاصي الأرض, وقوانين واتفاقيات ومؤتمرات دولية لتعزيز التعاون الدولي في مجال محاربة الإرهاب, واستنفار للمنظومة الدينية الرسمية وتدوير ماكينات الفتاوى لتضخ الفتاوى حسب الطلب لشرعة التدخلات السافرة بحق الأمم والشعوب, وتغيير أو إعادة ضبط المناهج الدراسية لتتوافق مع التوجه الدولي الجديد, إضافة إلى حصار المنظمات والجمعيات الأهلية ذات الطابع الخيري تجفيفا للمنابع المزعومة ومصادر تمويل الإرهاب, والتضييق وحصار الإعلام ومحاولات لإصدار وثائق وقوانين تنظيم البث الفضائي واعتقال الصحفيين والإعلاميين وقصف لمكاتب القنوات والمؤسسات الإعلامية. فكان بالمحصلة أخدودا رهيبا أتى على أخضر الجهاديين ويابسهم.

لم تكد تمر سنوات على الحرب ضد الجهاديين حتى بدا أن الحملة الغربية في طريقها إلى الاندحار, بعد مقاومة شرسة جهادية في العراق, وانبعاث طالباني قاعدي جديد في أفغانستان, وتوسع جهادي في اليمن والصومال. لتأتي الأزمة الاقتصادية العالمية كإحدى مخرجات الحرب على "الإرهاب", لتعمق من أزمة التحالف الدولي وتساهم في انفراط عقده, ايدانا بانحسار الموجة وانتهاء المرحلة.

جاء أوباما "الديمقراطي" خلفا لجورج بوش الانجيلي المحافظ, لينخرط في مشروع تصفية تركة بوش الثقيلة, ويستهل مشواره الرئاسي بالمصالحة مع العالم الإسلامي من خلال خطابه الشهير بجامعة القاهرة. مع وعود بسحب القوات الأمريكية من العراق, وإغلاق المعتقلات الرهيبة سيئة الصيت, وتضييق دائرة الحرب على الإرهاب, لتنحصر في الحرب على القاعدة وحدها, مع إلغاء مصطلح "الإرهاب" في التداول السياسي والأمني والإعلامي.
جاء الربيع العربي ليدشن صفحة جديدة في علاقة الغرب مع الأمة وعلاقة الأمة مع التيارات الجهادية كذلك, فلم يكد الربيع العربي يصل إلى ليبيا حتى اضطرت الأمة لاستدعاء المشروع الجهادي, ليكون رافدا أساسيا من روافد الثورة على نظام القدافي, وليعود إليه الفضل في إنجاح الثورة ووضع حد للقدافي ونظامه الدموي.

في سوريا بدا الوضع هناك مستعصيا على الجميع وسط تخاذل متعمد من النظام الدولي, فلما لم يعد هناك داع للحفاظ على سلمية الثورة, في خضم حرب إقليمية تشن على الشعب السوري بواسطة نظام طائفي استئصالي رهيب وبمختلف الأسلحة حتى المحرمة منها دوليا, تقاطر الجهاديون على سوريا دعما لثورتها وصمودها الأسطوري, فالتف الشعب السوري حول الرافد الجهادي وشكلوا حواضن شعبية له, وبدت سوريا عراقا ثانية لتعدد المجاميع الجهادية بها ولدورها الرئيسي في كف عدوان النظام وتأمين الخدمات الصحية والاجتماعية والتموينية للمواطنين السوريين.

لقد أسفر الربيع العربي عن وضعية جديدة, شكلت المصالحة مع المشروع الجهادي أهم سماتها, وتجلت هذه المصالحة في إطلاق سراح معظم القيادات والعناصر الجهادية في البلدان التي شهدت حراكا شعبيا جماهيريا, كمصر وليبيا وتونس والمغرب, وتمكينهم من العمل السياسي والدعوي والإعلامي, واستلهام أدبيات ومفاهيم وحتى استراتيجيات التيار الجهادي في الفعاليات الثورية خصوصا في الأقطار التي انتقلت فيها الثورة إلى العمل الصدامي المسلح. في هذه المرحلة لم يستطع الغرب أن يفعل شيء باستثناء جهوده الحثيثة لتحريف مسار الثورات وإرهاقها, مع تخفيف القبضة في حربه على "الإرهاب", خصوصا والمزاج العربي العام يميل إلى ذلك "الإرهاب" كصمام أمان في وجه بقايا الأنظمة التي لم تنفق بعد.

لم تعمر وضعية تخفيف القبضة على ما يسمى الحرب على الإرهاب كثيرا, فبعد انقشاع غبار الثورات, وتأكد الغرب أن معظم هذه الثورات أسفرت عن نظم وحكومات ليست أقل حماسا في الحرب على الإرهاب من سابقاتها المقبورة. دشن الغرب بمواكبة من فلول الأنظمة الوظيفية في المنطقة جولة جديدة من جولات الحرب على ما يعتبرونه "إرهابا" يستهدف السلم والأمن الدوليين. حرب ستكون بمثابة أخدود جديد قد يبتلع كل مكتسبات "المشروع الجهادي", وقد يعصف أيضا بما تبقى من تماسك دولي وهو ما سيعجل بالتأكيد بظهور نظام دولي جديد متعدد الأقطاب.

كانت أولى بوادر التوجه الأمريكي الجديد القائم على استدعاء ارث جورج بوش, واستكمال أجندته المعروفة, هي إطلاق العنان لطائرات "البريداتور", التي تغير بشكل دائم على اليمن وباكستان, وتحليقها المكتف في الأجواء الليبية والتونسية والمالية, واستدعاء البوارج الأمريكية إلى السواحل الليبية, ومشاركة عناصر من FBI في التحقيق داخل التراب الليبي والتونسي في حوادث السفارات. وكان تعيين جون برينان مهندس القتل عن بعد بواسطة الطائرات بدون طيار على رأس الاستخبارات المركزية دليلا على التوجه الجديد للإدارة الأمريكية, رغم الجدل الذي أثاره هذا التعيين داخل إدارة أوباما نفسها.
لم تتورع الإدارة الأمريكية في اتهام بعض فصائل الثوار في ليبيا وسوريا بالإرهاب, فأدرجت جبهة النصرة وحركة أحرار الشام في لائحة المنظمات الإرهابية مما يعني ضمنا الدخول معها في حرب اغتيالات وتصفيات.

لم تكن تفجيرات بوسطن إلا الضوء الأخضر لأوباما ليباشر أجندته الجديدة مرتاح البال من جهة الرأي العام الأمريكي والدولي, تماما كأحداث الحادي عشر من سبتمبر التي اتخذها جورج بوش ذريعة لغزو العالم العربي والإسلامي, رغم ما حام حول تفجيرات بوسطن من شبهات كون المتهم الرئيس فيها موضوع في لائحة الشخصيات الإرهابية المفترضة ومراقب من قبل مكتب التحقيقات الفدرالي, وتلقى هذا الأخير إخطارات من نظيره الروسي بشأن نوايا تمورلان تسارناييف, الذي لم يخف توجهاته الجهادية خصوصا في اعتراضه على خطب الجمعة التي يحضرها أو في نشاطه السيبيري المكشوف الذي ينخرط فيه باسمه الحقيقي. 

تفجيرات بوسطن أعقبتها حملة اعتقالات "لخلايا إرهابية " في كل من اسبانيا وكندا, وكان الموقوفون في كندا عناصر من القاعدة تلقوا تعليمات بالقيام بتفجيرات هناك بإيعاز من قادتهم في إيران, تناقض عجيب لا مفر من تصديقه كما صدقنا من قبل العلاقة الوثيقة بين صدام و أسامة بن لادن.

الأنظمة العربية من جهتها بدت في حماسها المعهود لكل الأجندة القادمة من البيت الأبيض, فبتاريخ 13 مارس/ آذار2013 اختتمت اجتماعات الدورة الثلاثين لمجلس وزراء الداخلية العرب بالعاصمة السعودية الرياض الذين بحثوا سبل مواجهة الإرهاب, وإيجاد خطط جديدة لمحاربته, وانعقاد هذه الدورة دليل كبير على أن النظام العربي العتيق لم يسقط بعد وإنما تصدع فقط إذ لا يزال بعده الوظيفي القائم على التبعية للغرب في أوج نشاطه, بعد هذا المؤتمر بشهر تقريبا انعقد اجتماع لوزراء داخلية بلدان المغرب العربي بالعاصمة المغربية الرباط, وشدد المجتمعون على أهمية "بذل كافة الجهود من أجل مكافحة الإرهاب واجتثاث جذوره باعتبار أن هذه الظاهرة تستلزم مواجهة جماعية منسقة ومستمرة".

هذه الاجتماعات وغيرها لا يمكن فصلها عن المناخ العالمي المشحون والمعبئ ضد الحضور الجهادي في مختلف الأقطار والساحات, والذي انخرطت فيه قوى تبحث لنفسها عن موطئ قدم في النظام العالمي الجديد المتشكل, كفرنسا التي فتحت جبهة في شمال مالي من خلال تدخلها المباشر هناك لمحاربة الجماعات الإسلامية.
الإنزال الفرنسي في شمال مالي ليس الأول من نوعه, فقد سبقته وأعقبته تدخلات وانزالات أمريكية مباشرة في كل من اليمن والأردن استعداد لتدخل عسكري مباشر في سوريا لمواجهة الجهاديين وجها لوجه.

بما أن هذه التعبئة العالمية ضد ما يسمى الإرهاب لن تكتمل إلا بإضفاء نوع من الشرعية الدينية عليها, فان ماكينات الفتوى أعيد تدويرها من جديد لتضخ فتاوى حسب المقاس والطلب, ولا يمكن قراءة فتوى الشيخ المنيع بتحريم المشاركة في الثورة السورية بدعوى أن ما يحدث هناك مجرد حرب أهلية إلا ضمن هذا السياق, كما دعا العاهل السعودي إلى تشديد العقوبات على المغررين بالشباب ومحرضيهم على الذهاب إلى سوريا.

إذن فالسمة التي ستطغى على المشهد العالمي في المرحلة المقبلة هي الحرب على الإرهاب, وسيعاد إنتاج حقبة جورج بوش من جديد بكل سلبياتها وأخطائها وكوارثها, ولعل خروجه الإعلامي -أي جورج بوش- وثناء أوباما عليه الأسبوع الماضي خلال مشاركته في مراسيم افتتاح مكتبته بتكساس (مكتبة جورج بوش ) لدليل كبير ومؤشر واضح على هذه التكهنات والاستشرافات.

الاسمبريد إلكترونيرسالة