JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

11 سبتمبر (2) !!!

أكرم حجازي--
ما يعرفه « المركز» وحلفاؤه وكل قوى الأرض أنه ليس من دعوى التوحيد المس بالأنبياء والرسل قليلا أو كثيرا، بل إن من أركان الإيمان القاطع عند المسلمين الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. لكن الشريط المسمى بـ « براءة المسلمين» حفل بالإساءات والكذب والتزوير والتحريف والإهانة على امتداد ساعتين، واشتركت في إنجازه كافة القوى المعادية للشريعة ودعوى التوحيد، بدءً من أرباب الكنيسة الأرثوذكسية المصرية في المهجر، وفي مقدمتهم موريس صادق وزكريا بطرس، والقس الأمريكي تيري جونز، صاحب فكرة حرق القرآن، وانتهاء بالخلفية الشيعية الصريحة للشريط، والتي لم يخفها المخرج بقدر ما أظهرها سواء بمضمون الشريط أو بما اعتمده من روايات لا توجد إلا في كتب الشيعة، بالإضافة لمخرج الشريط اليهودي « الإسرائيلي» الذي انتحل لنفسه اسم « سام بازيل» .. هذا الـ « بازيل» نقلت عنه صحيفة « وول ستريت جورنال - 12/9/2012 » الأميركية أنه: « جمع خمسة ملايين دولار من مائة يهودي لم يحدد هوياتهم لتمويل الفيلم».
مع ذلك فالثابت أن الشريط القبيح لم يكن هو الحادثة الوحيدة أو الثانية أو حتى الثالثة التي مست عقائد المسلمين والرسول صلى الله عليه وسلم، فما زال ذلك الكتاب السيئ الذكر، « آيات شيطانية – 1988»، للكاتب البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي، حيا في الذاكرة، ومع ذلك فقد تلقى تكريما سنة 2008، حظي بموجبه من الملكة اليزابيت الثانية على لقب « فارس» بعد عشرين سنة من التواري عن الأنظار. وما زالت غصة الرسوم الدانمركية حية في القلوب والعقول، خاصة مع استمرار الصحف الأوروبية بالتضامن مع الرسام الدنمركي ورسومه وصحيفته الـ « يولاند بوسطن».
كان من اليسير على الولايات المتحدة أن تقدم اعتذارا وتحتوي الاحتجاجات العنيفة التي تفجرت في بلدان الثورات العربية، وهو ما سارع إلى فعله، صبيحة الحادثة (11/9/2012)، السفيرة الأمريكية في القاهرة في بيان أكد فيه: « أن احترام المعتقدات الدينية هو حجر الزاوية للديمقراطية الأميركية»، بل ذهب أبعد من ذلك في تعبيره عن: « الرفض الشديد لمن يسيئون استخدام الحق العالمي في حرية التعبير من أجل الإساءة للمعتقدات الدينية للآخرين». لكن محاولات الاحتواء الدبلوماسية في الميادين الساخنة لا تنفع في السياسات الثابتة ومراكز القرار!!! لذا رد جاي كارني، الناطق باسم البيت البيض، في مؤتمر صحفي ( 14/9/2012)، وكذا فعلت دول « المركز»، برفض تقديم أي اعتذار، مذكرا بأن الدستور يكفل « حرية الرأي». ولأن هذه « الحرية» من الثوابت الخاصة بالأمريكيين فلم يأت أحد على ذكر مقتل العديد من المتظاهرين في مصر والسودان ولبنان واليمن وإصابة العشرات بجراح بأيدي القوات المحلية .. فالمألوف تاريخيا أن الضحايا لا بد وأن يكونوا دائما من المسلمين .. بل أن « التعازي» و « المواساة» الأمريكية و « الفجيعة» كانت من نصيب السفير وزملائه في ليبيا، دون الإشارة إلى قتلى الليبيين من حراس القنصلية الأمريكية في بنغازي حيث قتل السفير.
وبالمقارنة ما كان لمواطن في دول « المركز» أن يفلت من الاعتقال أو النفي أو الغرامة، مصحوبا باعتذار وترضية خواطر ومزيد من القيود لصالح « إسرائيل»، إذا ما تعلق الأمر بما يسمى « معاداة السامية» أو إنكار « المحرقة اليهودية» أو مجرد مناقشتها.
إذن هو العداء المستحكم للإسلام وليس حرية الرأي ولا القوانين. وتبعا لذلك لم يكن مقتل السفير الأمريكي في ليبيا ليثير الولايات المتحدة ويدفعها لإرسال مدمراتها الحربية، وسط الإعلان عن أقصى حالات الاستنفار الأمني في الداخل الأمريكي والخارج، والتعهد بما أسماه الرئيس الأمريكي باراك أوباما بـ « جلب القتلة إلى العدالة»، بطريقة تحاكي ما تعهد به سلفه جورج بوش في أعقاب هجمات 11 سبتمبر سنة 2001. لكنها في الواقع فرصة لتقييم اختبارات القوة والمواجهة لكلا الطرفين .. قوى « المركز» من جهة، وشعوب الثورات العربية من جهة أخرى.
على مستوى « المركز»؛ كانت الاحتجاجات الإسلامية على محاولات الطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم أو حرق القرآن أو تمزيقه تنطلق في العادة من الدول الأعجمية مثل اندونيسيا وباكستان وأفغانستان وغيرها، ثم تمتد لتبلغ دولا أخرى ليست الدول العربية إلا آخرها. لكنها هذه المرة، وعلى غير العادة، انطلقت من الدول العربية، وعلى وجه الخصوص من دول الثورات، ثم توسعت باتجاه دول العالم الإسلامي، مع ملاحظة ضعف الحراك الشديد في الدول العربية التي لم تشهد تغييرا في أنظمتها، ومن ورائها الأبعد عن ثقافة الثورات.
المهم هو ملاحظة أن الثورات العربية قدمت الشعوب، للمرة الأولى والأشد فاعلية، باعتبارها فاعلا استراتيجيا غير مسبوق في الثورة على الاستبداد والظلم الذي تعيشه منذ عقود طويلة إنْ لم يكن قرونا، تُوِّجت بعقد من بالحروب، كما يقول « غراهام فولر»، أحد أساطين الأمن القومي الأمريكي. وفي سياق هذه الملاحظة يبدو أن مقتل السفير الأمريكي ستكون له تداعيات أسوأ مما خلفته هجمات 11 سبتمبر 2001. إذ أن الحادث يمثل فرصة ثمينة لمعاينة أقصى ما يمكن أن تذهب إليه الشعوب العربية فيما لو تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة، وعجزت الولايات المتحدة، ومن ورائها « المركز»، عن المراقبة والسيطرة والتحكم.
ولعل الأبين في مقتل السفير أنه يمثل فرصة جدية لدى « المركز» لـ (1) اختبار أدوات التحكم والسيطرة، وكذا (2) اختبار فاعلية السياسات والإجراءات التي اتخذها بعد هجمات 11 سبتمبر، خاصة في دول الثورات العربية، ومعرفة ما إذا كانت صالحة للتعامل مع الشعوب وفق الحالة الجديدة التي أتاحت قدرا من الحريات، فضلا عما بات يُعرف بالثقافة الجديدة الرافضة، على الأقل، لأنماط الحكم التقليدية. وتبعا لذلك لا نستبعد المزيد من الإجراءات والسياسات القادمة لـ « المركز»، والتي ستشعر بمخرجاتها دول الثورات والشعوب في وقت قريب جدا.
وعليه ستجد الشعوب نفسها، وكذا الناشطون والقوى الحيوية، ذات الغيرة على مصالح الأمة، ومسارات التغيير فيها، معنيون، أكثر من أي وقت مضى بتوخي الحذر الشديد، ومراقبة الضغوط والحراك السياسي والأمني والحربي لـ « المركز»، وكذا مواقف حلفائه والمتواطئين معه، وأولئك الذين اصطفوا في خندقه أو الساعين إلى طلب العون والمساعدة منه، مع توقع حزمة حجج سياسية وأمنية وشبهات شرعية مستحدثة أو مماثلة لتلك التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر. وغني عن القول الإشارة إلى أن دول الثورات والشعوب العربية قد تضطر، وفقا لهذه الرؤية، إلى مواجهة أخطر اعتراض دولي لمسار الثورات العربية، ولا حاجة للتذكير أيضا أن الثورة السورية، منذ لحظة انطلاقتها الأولى، مثلت النموذج الأبرز على نمط الاعتراض الدولي الأوحش بحق الشعوب.
ومع ذلك فإن الفارق في المواجهة هذه المرة، بخلاف « سبتمبر 1»، يقع على عاتق الشعوب وليس على قوى النخبة الجهادية وحدها، وهو ما حاول « المركز» اختبار ردوده وفاعليته عبر بث مقاطع من الشريط العدواني .. وهو اختبار يقع في أقصى درجات الاستفزاز والتحدي. ولهذا ينبغي القطع مع كل الدعوات التي تروج إلى اعتبار الشريط عملا فرديا، مستدلة بإدانة بعض دول « المركز» لما ورد فيه، أو بما تتيحه القوانين الأمريكية من حرية رأي تسمح لأي كان أن يعبر عن رأيه. إذ أن مثل هذه المعايير سبق وأسقطها رؤوس « المركز» أنفسهم مثل جورج بوش ومارغريت تاتشر وجوقة المحافظين الجدد ممن أعلنوها « حربا صليبية» ضد الإسلام والمسلمين.
أما على المستوى العربي؛ وبقطع النظر عما إذا كانت أنصار الشريعة هي التي نفذت الهجوم على القنصلية أم لا، بالرغم من نفيها لأية مسؤولية، فإن الشريط مثّل رسالة واضحة من شعوب الثورات إلى « المركز» تشي بأن الثورات لن تكتمل دون خوض مواجهة حاسمة مع قواعد الهيمنة الدولية والمحلية. وأنها باتت مهيأة لاقتناص الفرصة المناسبة. بمعنى أن الشعوب التي قطعت المرحلة الأولى من ثوراتها لا بد وأن تنتهي بالمرحلة الأخيرة وهي التخلص من الهيمنة، عاجلا أم آجلا.
هذا بالضبط ما يخيف « المركز» الذي تلقى ضربة قوية باغتيال رأس الدبلوماسية الأمريكية في عقر ما يراه منطقة نفوذ وسيطرة جديدة، وليس بيئة ثورية مسلحة وغاضبة، وإلى حد ما متحررة أو حتى منفلتة. ولما يغدو السفير هدفا فمن الطبيعي أن تكون مصالح « المركز» أهدافا مماثلة، باعتبارها قواعد هيمنة دولية. ومن الطبيعي أيضا أن تحسب قواعد الهيمنة المحلية ألف حساب لما ينتظرها في الداخل.
وفي السياق لا تزال الدعوة إلى « تطبيق الشريعة» الإسلامية، لاسيما بعد انطلاق الثورات العربية، تحدث تمايزا صريحا بين المؤيدين والمعارضين لها خاصة في دول الثورات العربية. فالذين يصفون الجماعات الإسلامية والجهادية بـ « الجماعات الإرهابية»، بما فيها ذات التوجه الوطني، يدركون أن توصيفاتهم هذه تعني أن كل عمل أو نشاط يتصل بـ « تطبيق الشريعة»، سواء كان عملا سلميا أو مسلحا، هي بالضرورة أعمال أو نشاطات تقع بين « التطرف»، في أحسن الأحوال، و « الإرهاب» في أسوئها.
ولا ريب أن هؤلاء، شاؤوا أم أبوا وبشكل مباشر أو غير مباشر، انحازوا إلى أطروحة « المركز» المعادية لـ « الشريعة» وحتى لـ « الإسلام» برمته. وهذه الأطروحة ترى أن كل عمل سياسي أو عسكري ضد هذه الجماعات هو بالضرورة عمل مبرر، يستدعي حشد كل أدوات القوة لمنعه من تحقيق أهدافه بما في ذلك توفير الغطاء الشرعي والعقدي المعادي له.
أما الذين يصرون على « تطبيق الشريعة» فينطلقون من ثوابت شرعية وعقدية لا تتقبل أية أحكام وضعية بديلة عن « حاكمية الشريعة»، ومن الناحية السياسية لا يرون أية إمكانية لمواجهة « الهيمنة» والتخلص من قواعدها، محليا ودوليا، إلا بـ « تطبيق الشريعة»، باعتبارها المعيار الأصدق والضامن الوحيد والفرقان في التعامل مع القوى العلمانية واللبرالية، وتلك المعادية للأمة والدين، حتى لو كانت إسلامية اللسان.
كل هذا المشهد واقع بتفاصيله في ميادين الثورات، ولدى الشعوب ولدى « المركز». وأكثر من هذا فإن رفض « المركز» الاعتذار أو وضع حد للهجمات المتتالية على الإسلام ورموزه ومقدساته يعني أنه ماض في سياساته العدوانية واعتراضه لمسار الثورات مثلما أن شعوب الثورات ماضية هي الأخرى في تفكيك قواعد النظم وثقافاتها، وفي تفكيك قواعد الهيمنة المحلية والدولية. وستظل الشريعة أكثر ما يخيف « المركز» ومصدرا لكل تدخلاته وحروبه القادمة ..
الاسمبريد إلكترونيرسالة