JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

إعادة التفكير في المشروع الاستراتيجي لتنظيم "القاعدة"


خليل العناني---
 عندما دخل الاتحاد السوفياتي السابق أفغانستان لم يكن يخطط لاحتلال طويل المدى، وإنما كان يسعى لدعم الحكم الشيوعي الذي تأسس تحت رعاية سوفياتية مباشرة أواخر السبعينات. وكان الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه الزعيم السوفياتي ليونيد بريجينيف ومن جاء بعده، هو الوقوع فى فخ الاستدراج والاستنزاف الذي نصبه لهم المتمردون الأفغان والمجاهدون العرب، ومن خلفهم الغرب. لذا لم يأت عام 1988 إلا وقد تجاوز عدد القوات السوفياتية في أفغانستان حوالي مئة ألف جندي، قُتل منهم 14 ألفاً وجُرح ما يقرب من 35 ألف
جندي، وذلك قبل أن يخرج السوفيات من دون أن يحققوا أهدافهم من الغزو.
الآن يمارس تنظيم «القاعدة» نفس اللعبة القديمة مع الأميركيين، وهو انتقل من مرحلة استهداف المصالح الأميركية داخلياً أو خارجياً، إلى مرحلة «الاستنزاف» القصوى للولايات المتحدة مادياً ومعنوياً، على غرار ما حدث مع الاتحاد السوفياتي السابق. وبغض النظر عن الوضع الميداني للتنظيم، والذي يعاني خللاً مادياً ولوجيستياً، فإن جذوته الإيديولوجية وأجندته الجهادية لا تزال فاعلة، كما أن رصيده البشري لم يُستنفد بعد. ويخطئ من يقرأ ضعف الشبكة العنقودية للتنظيم كعلامة على دخوله فى مرحلة «الأفول». فمثل هذه التنظيمات «الأممية» لا تموت أبداً ما دامت تعتاش على جذر، ولو ضعيف، في منظومة الجهاد الإسلامي الكلاسيكي. بخاصة بعد أن نجح التنظيم في ترسيخ نفسه كمحتكر وحيد لـ «صناعة الجهاد» في العالم الإسلامي، وبات أشبه بمظلة «جهادية» عالمية وليس مجرد تنظيم إقليمي. وهو في ذلك بات أقرب الى تنظيمات إسلامية «أممية» لا تزال متمسكة بمشروعها الاستراتيجي من دون تغيير، مثل جماعة «الإخوان المسلمين» ذات الثمانين عاماً، وحزب التحرير الإسلامي ذي الخمسين عاماً.
وبوجه عام يمكن تقسيم التطور الذي مر به المشروع «الاستراتيجي» لتنظيم «القاعدة» وأجندته الجهادية إلى ثلاث مراحل، أولها ما يمكن أن نطلق عليه مرحلة «التثبيت» والتي بدأت منذ عام 1998 وحتى أواخر عام 2000وهي المرحلة التي سعى فيها التنظيم لإثبات وجوده والإعلان عن نفسه بكل قوة من خلال عملياته العنيفة التي نفذها في كينيا وتنزانيا في آب (أغسطس) 1998، أي بعد ستة شهور فقط من الإعلان الرسمي عن قيام التنظيم. وما لبثت أن تلت ذلك عملية تفجير المدمرة الأميركية «يو إس إس كول» في خليج عدن في تشرين الاول (أكتوبر) 2000. بالإضافة إلى العمليتين اللتين تم إحباطهما في مطار لوس أنجليس واستهداف إسرائيليين في الأردن عشية الاحتفال بمطلع الألفية الثالثة. وقد كان الهدف الرئيس للتنظيم آنذاك هو توجيه إنذار قوي الى الولايات المتحدة بأن تعيد حساباتها في التعاطي مع مطالبه وعدم الاستخفاف بقدراته. وقد تركز الميدان العملياتي لـ «القاعدة» خلال تلك المرحلة في منطقة القرن الأفريقي. في حين تناغمت الأطروحات الفكرية للتنظيم مع أهدافه الاستراتيجية في تلك المرحلة. وهو ما يمكن قراءته من خلال مراجعة أدبيات وكتابات قادته، سواء المنخرطين في التنظيم في شكل مباشر، مثل أيمن الظواهري وأبو مصعب السوري (مصطفى الست مريم) أو المتعاطفين معه مثل أبو قتادة الفلسطيني (عمر محمود أبو عمر) وأبو محمد المقدسي (عصام البرقاوي).
أما المرحلة الثانية فقد تم تدشينها مع هجمات 11 سبتمبر 2001، ويمكن أن نطلق عليها مرحلة «الاستفزاز والاستدراج». وقد كان الهدف الاستراتيجي هنا ليس فقط مجرد توجيه ضربة تاريخية موجعة للولايات المتحدة على نحو ما حدث، وإنما أيضاً استفزازها واستدراجها الى حرب طويلة المدى لم تعد لها عدتها. وهو ما حدث لاحقاً حين غامرت الولايات المتحدة بالدخول في حربي أفغانستان والعراق، لا لسبب سوى الانتقام لكرامتها المهدَرة، من دون وجود أهداف واضحة لحربيها. ويروي الحارس الشخصي لبن لادن ناصر البحري المعروف باسم (أبو جندل) في حوار له مع قناة «العربية» أن أحد الأهداف الأساسية لأسامة بن لادن من هجمات 11 سبتمبر كان استدراج الولايات المتحدة أو «الثور الأميركي» على حد وصف أبو جندل للقتال على أكثر من جبهة. ومن يراجع خط سير عمليات «القاعدة» خلال تلك المرحلة سوف يلاحظ أمرين، أولهما اتساع الدائرة الجغرافية والعملياتية للتنظيم من بالي (إندونيسيا) شرقاً، إلى جربة (تونس) والدار البيضاء (المغرب) غرباً، ومن لندن ومدريد شمالاً إلى اليمن والصومال جنوباً وبينهما الرياض وأسطنبول ومومباسا. وثانيهما، اتساع المظلة الإيديولوجية والعقائدية للتنظيم كي تلتحق بها تنظيمات وخلايا فرعية تتماهى فكرياً وعقائدياً مع التنظيم «الأم» من دون روابط تنظيمية واضحة، كما هي الحال في العراق وبلاد الشام والجزيرة العربية واليمن والمغرب العربي.
أما المرحلة الثالثة فهي التي يعيشها التنظيم حالياً، وهي التي يمكن أن نطلق عليه مرحلة «الاستنزاف التاريخي» للولايات المتحدة، والتي انتقل فيها تنظيم «القاعدة» من فقه «القتال» إلى فقه «الاستنزاف»، مختفياً تحت عباءة حركة «طالبان» بفرعيها الأفغاني والباكستاني. ويتمثل الهدف الأساسي في هذه المرحلة في ضمان إبقاء القوات الأميركية فى مناطق الصراع لأطول فترة ممكنة باعتبارها ماكينة استنزاف مادي وعسكري لـ «الثور» الأميركي. لذا فقد كان قرار الانسحاب الأميركي من العراق بمثابة خسارة استراتيجية لتنظيم «القاعدة» ليس فقط كونه يسحب إحدى ذرائع التنظيم في مواصلة القتال هناك، وإنما أيضاً كونه يقلل من الدعم الداخلي والخارجي ويعرّي التنظيم سياسياً وعسكرياً. في حين كان قرار إدارة أوباما بزيادة القوات الأميركية في أفغانستان الربيع الماضي كي تصل إلى نحو 63 ألف جندي، بمثابة هدية لزعماء التنظيم وتدشين للمرحلة الثالثة من مشروعهم الاستراتيجي، وتزايد فرص دخول الولايات المتحدة في طور الاستنزاف التاريخي. وهو ما تؤكده الخطب الصوتية الأخيرة التي بثّها قادة التنظيم. ففي رسالته الأخيرة بمناسبة الذكرى الثامنة لأحداث 11 سبتمبر، أشار أسامة بن لادن إلى أن الولايات المتحدة سوف تشهد حرب استنزاف طويلة المدى، وهو نفس المعنى الذي أكده الظواهري في أكثر من شريط صوتي.
وفي الوقت الذي يطور فيه تنظيم «القاعدة» أهدافه واستراتيجياته، خاصة فيما يتعلق بالحرب النفسية والإعلامية، تبدو الولايات المتحدة غارقة حتى أذنيها في كيفية مجاراة التنظيم ومواصلة الحرب معه، من دون البحث في إمكانية وقفها وتغيير استراتيجيتها في شكل جذري.
وبعكس ما قد يبدو، فإن وصول باراك أوباما الى البيت الأبيض كان بمثابة عنصر استنفار واستفزاز للتنظيم من جهتين، أولاهما أن ذلك يكاد يفقد التنظيم إحدى أوراقه الرابحة في استمرار جذوة الصراع متقدة مع الغرب، فقد كانت «حماقة» المحافظين الجدد ورعونتهم بمثابة وقود حي لتنظيم «القاعدة» ورافعة مهمة لتبرير عملياته في كل مكان. وثانيتهما، ازدياد الرغبة لدى قيادة التنظيم في إمكانية إلحاق الهزيمة بالولايات المتحدة باعتبار أن أوباما لن يقوى على مجاراة «القاعدة» سواء لحداثة خبرته السياسية، أو لرغبته في تغيير الصورة السلبية للولايات المتحدة في العالم الإسلامي من خلال الانسحاب من مناطق الصراع في هذا العالم، وهو ما يعطي «القاعدة» فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب صفوفها.
وفي شكل سريع يمكن استعراض أهم النتائج والمكاسب التي حققتها استراتيجية «الاستنزاف» في مواجهة الولايات المتحدة حتى الآن. ولعل أولها ما يتعلق بالاستنزاف المادي والاقتصادي، فقد بلغت تكلفة الحرب على العراق وأفغانستان حوالى تريليون دولار مقسمة بينهما إلى 684 و 223 بليون دولار على التوالي، بالإضافة إلى حوالى 33 بليون دولار لبقية مجالات الحرب على الإرهاب. ومن المحتمل أن تزيد تكلفة الحرب هذا العام بنحو 338 بليون دولار إذا تمت زيادة عدد القوات فى أفغانستان بحوالي 30 ألف جندي، وإلى نحو 867 بليوناً إذا زاد عدد القوات بحوالي 75 ألف جندي بحلول عام 2013، ومن المتوقع أن تصل التكلفة الإجمالية للحرب على الإرهاب إلى نحو 2 تريليون دولار بحلول عام 2019 بحسب إحصاءات لجنة القوات المسلحة فى الكونغرس الأميركي. وسيزداد الأمر سوءاً إذا أُضيفت إليه فاتورة الأزمة المالية الحالية التي يواجهها الاقتصاد الأميركي.
اما النتيجة الثانية للحرب فهي الاستنزاف العسكري والاستراتيجي للولايات المتحدة، فقد وصل عدد القوات الأميركية في أفغانستان إلى 63 ألف جندي من المتوقع رفعها إلى نحو مئة ألف بحلول العام المقبل (لنتذكر هنا الحالة السوفياتية)، وذلك إذا حُسم الصراع داخل أروقة الإدارة الأميركية في شأن زيادة عدد القوات بحسب التوصية التي قدمها أخيراً قائد القوات الأميركية في أفغانستان الجنرال ستانلي ماكريستال. ناهيك عن ارتفاع الخسائر في صفوف القوات الأميركية وقوات حلف الاطلسي في شكل غير مسبوق.
ومن جهة أخرى فإن من شأن تدهور الأوضاع في العراق وأفغانستان أن يؤدي إلى تآكل المزايا الاستراتيجية التي احتفظت بها الولايات المتحدة لفترة طويلة في منطقتي الخليج وجنوب شرقي آسيا وآسيا الوسطى. وقد تضطر الولايات المتحدة للدخول في مساومات وصفقات مع خصوم لها مثل إيران وروسيا والصين من أجل الحفاظ على مصالحها في تلك المناطق. وهنا يمكن الإشارة إلى ملاحظة ذات دلالات عميقة وهي أنه من بين 42 دولة تعمل تحت مظلة حلف الاطلسي في أفغانستان، فيما يعرف بـ «القوات الدولية للدعم والإسناد – إيساف» لا توجد بينها أي من دول الجوار الأفغاني (روسيا، الصين، إيران، باكستان، الهند) وهو ما يمثل عبئاً إضافياً على واشنطن في حل المعضلة الأفغانية.
النتيجة الثالثة هي الاستنزاف المعنوي، وهو ما يرتبط بتآكل الصورة النمطية للولايات المتحدة كقطب دوي مهيمن. وقد اصبح ذلك واضحاً بجلاء خلال الشهور التسعة الماضية، وترجمه الرئيس باراك أوباما صراحة في خطابه الذي ألقاه أخيراً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي أنهى فيه رسمياً مرحلة «القطبية الأحادية» ودشّن مرحلة جديدة في النظام الدولي لا تزال ملامحه في طور التشكل.
وبذلك يكون تنظيم «القاعدة» قد نجح في تحقيق أحد أهدافه التاريخية في مواجهة «العدو البعيد»، ما يفرض حتمية إعادة التفكير في مستقبل التنظيم وكيفية التعاطي مع مشروعه الاستراتيجي.
الاسمبريد إلكترونيرسالة