JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

الفاعل الاستراتيجي القادم على الساحة الدولية


د.أكرم حجازي__

بدأت آليات المواجهة الطاحنة بين تيارات الجهاد العالمي والخصوم تتضح على نحو جلي وشديد البيان بما يكفي للحسم بأن مؤشرات الصراع بين الجانبين باتت تتجه للتبلور في صيغتها النهائية على الأقل خلال المدى المنظور، على أنه من الأهمية ملاحظة أن الصراع وفق هذه الآليات لا يعني قرب نهاية الصراع أو انتصار طرف على آخر فيه بقدر ما يعني بدايته بأتم معنى الكلمة. ومن المرجح أن يتخذ أشكالا أخرى أشد عنفا خاصة وأن أحد الطرفين لن يسلم بسهولة للطرف الآخر ما لم ينته الأمر بكارثة محققة تصيب أحدهما. فما هي هذه الآليات التي تتخذ الآن صورة ظواهر اجتماعية فريدة في حاضر الأمة؟ وأي مكانة تحتلها في الصراع؟


أولا: مشاريع الصحوات العشائرية

لا شك أن الولايات المتحدة الأمريكية وكافة القوى الصديقة والعدوة ذهلت من سرعة تشكل جماعات الجهاد في العراق وشراستها غير المعهودة في القتال خاصة في بيئة غير مواتية أصلا لحرب العصابات كبيئة العراق، هذا المعطى الذي من المفترض أن يصب تلقائيا في صالح القوات الأمريكية سرعان ما تبددت ميزته وانكشفت نقاط ضعفه بعد أن حولته الجماعات الجهادية إلى أثر بعد عين وهي تخوض حرب عصابات في المدن والشوارع والحارات والأزقة والبيوت المهدمة والوديان مستخدمة أبسط الأسلحة وأخفها من قناصين وألغام وعبوات ناسفة وكمائن وحتى هجمات مباشرة وصاعقة استهدفت آليات العدو ومقراته وطائراته.

إنها مواجهة كانت بحق، وما زالت، طريفة للغاية وغريبة رغم الانقسام الطائفي والسياسي وما نتج عنهما من تبلور فريقين أحدهما حليف لقوى الغزو والآخر معادي لها. بل هي مواجهة سرية وغامضة لا يمكن ملاحظة، أكثر من تمظهراتها وتجلياتها العنيفة جدا، إذ من الصعب فهم آليات عملها وحراكها العسكري والأمني، وبالتالي لما يكون من المتعذر الاطلاع على خفايا القوة فيها فلن يكون سهلا علينا التنبؤ بمدى استمراريتها وشدة بأسها؟

لهذه الأسباب وغيرها فشلت القوات الأمريكية في المساس بها كثيرا رغم التنوع الكبير في وسائل ضربها واستخدام جيوش من العملاء والخصوم ولكن دون جدوى، فما كان منها إلا التوقف عن الغطرسة والارتجالية وعقلية الحروب السياحية واللجوء أخيرا إلى الأبحاث والدراسات الأكاديمية التي خرجت بتوصية تقضي بفك الارتباط بين هذه الجماعات والمجتمع بوصفه الحاضن لها، فجست النبض أولا عبر فك الارتباط بين الجماعات الجهادية ذاتها لتحقق، بلا ريب، بعض النجاحات إلا أنها فشلت في العموم مواصِلَة البحث والتقصي إلى أن وجدت ضالتها في بعض العشائر والأفخاذ وسقط المتاع من مجرمين وخصوم وأعداء وعاطلين وقطاع طرق ومخمورين وزناة وحاقدين وغيرهم. فمثل هؤلاء المهمشون أو المنبوذون ممن لم تعد لهم أية مرجعية وطنية أو دينية أو أخلاقية تذكر إلا بالقدر الذي تتحقق فيه مصالحهم، معطوفا عليها ما يحصلون عليه من امتيازات مؤقتة أو دائمة، شكلوا في الواقع الأدوات الضاربة الأهم بيد الاحتلال. وهكذا بدأت الصحوات تتشكل تباعا خاصة في المناطق التي تتواجد بها القوات الأمريكية أو على مقربة منها بهدف تأمين حمايتها ومهاجمة القوى الجهادية وطردها من مناطق نفوذها بقطع النظر عن موقف القوى الاجتماعية والدينية. والفريد في المسألة أن مجالس الصحوات من المفترض أن تتشكل في المناطق العشائرية إذا ما أخذنا بعين الاعتبار السمة المناطقية التي تحملها أصلا ومصادر الموارد البشرية الكائنة في المنطقة إياها، إلا أن الواقع يتحدث عن تشكيل مجالس صحوة في المدن والحارات والأحياء والقرى والشوارع بكثافة لعل المقصود منها إسباغ الشرعية عليها وجعلها مألوفة بين الناس، أما أن الأمريكيين أنفسهم يصرحون بأنهم لا يسمحون بتشكيل مجالس صحوة إلا في المناطق التي يتواجدون فيها أو التي تضطر قواتهم إلى المرور فيها، فهو مما يكفي للدلالة على أن تشكيلها هو قرار أمريكي محض وليس اختيارا اجتماعيا كما يروج رموزها الذين جاهروا علنا بطلب المليارات لقاء مقاتلتهم القاعدة، زيادة على أن التركيبة الذهنية للقبيلة هي التي استغلت في بنائها لتلبية الاحتياجات الأمريكية الأمنية والسياسية مما ينفي أية علاقة، بالإجمال، للتركيبة الاجتماعية والجغرافية للقبائل بتشكيلها بدليل تنصل العشائر الأصيلة منها ونبذها بشهادة الحقائق التالية:

(1) أن الخلفية الاجتماعية والأيدولوجية للمكونات البشرية للصحوات ليست متماثلة؛
(2) كما أنها خارجة عن السياق القيمي والديني للقبيلة كونها جُمعت من الحضيض الاجتماعي لأفراد وجماعات صغيرة وليس من كتل اجتماعية ذات شأن؛
(3) وبالتالي ما من مرجعية لها إلا القوى التي احتضنتها وجمعت شتاتها.
(4) وفي هذا السياق يحسن الإشارة إلى أن مشاريع الصحوات ما كان لها أن تنجح مطلقا لولا وجود قوى سياسية محلية حاضنة لها، بالإضافة إلى القوات الغازية، بحيث تشكل لها غطاء سياسيا واجتماعيا وأخلاقيا وحتى دينيا فتسبغ الشرعية على تصرفاتها وسلوكها حتى لو تعارضت مع مصالح الأمة ومصالحها هي ذاتها، فالحاصل أنه، وبأيد محلية، تم إغراق هذه الشريحة في المزيد من البؤس وتوريطها في سياسات لن تتعافى منها في المدى المنظور لا هي ولا أحفادها من الأجيال القادمة.

إذن، لا شك أن هؤلاء تحولوا إلى رأس حربة للمحتل الذي جيش الآلاف منهم (72 ألف حسب المصادر الأمريكية من بينهم 18 ألف شيعي) ونجح أيما نجاح في تحقيق ما عجزت عنه كافة الجيوش الغازية والقوى الحليفة لها، فخسرت القوى المجاهدة مناطق استراتيجية وفقدت الكثير من خزينها المقاتل على يد هؤلاء وانخفضت وتيرة المواجهات مع القوات الأمريكية. وكان لهذه النتائج صداها السياسي والعسكري لدى السياسيين والقوات الأمريكية، ولعل أبرز ما في هذا السياق تخصيص الإدارة الأمريكية لمبلغ 23 مليار$ لمواجهة دولة العراق الإسلامية بحسب المتحدثة باسم البيت الأبيض، والأهم منه تصريح ستيفن بيدل كبير الخبراء في السياسات الدفاعية في مجلس العلاقات الدولية الأميركية عن الصحوات بوصفها "أنجح صفقة بتأريخ الحروب".

هذه الوضعية شكلت في العراق أخطر محاولة لضرب المشروع الجهادي في الصميم وإعاقة تحركه، بل أن الصحوات مثلت أهم إضافة جديدة في الحروب العدوانية لضرب كافة حركات المقاومة والتمرد في الدول والمجتمعات ذات البنية القبلية، وهو اكتشاف لا يقل أهمية وفرادة عما اكتشفه منظّر الحرب البروسي الجنرال كلاوزفيتز إبان الغزو النابليوني لأسبانيا بإدخاله مفهوم الحرب الشعبية على ساحات الصراع الدولية والاستعمارية بصورة غير معهودة، ولكن هذه المرة من الشعب وضد الشعب نفسه وليس معه، مما يعني أن المشروع سيجري تعميمه في كل منطقة صراع ذات تركيبة اجتماعية مماثلة. ولأنه كذلك فقد أدركت الجماعات الجهادية، خاصة السلفية منها، خطورة المشروع الذي بات فعليا أشد ضراوة من قوى الاحتلال ذاتها، وأن قطف أحد رؤوس الصحوات لا يقل أهمية عن تدمير همر أو إٍسقاط طائرة أو تفجير عبوة أو قنص ضابط أمريكي أو مسؤول عميل، وهكذا اضطرت هذه الجماعات إلى مواجهة المشروع بقسوة غير مسبوقة عبر خوض حرب طاحنة استهدفت رؤوس الصحوات بالدرجة الأساس ملحقة بها خسائر فادحة لا تقل عما ألحقته بقوات التحالف.

وخلال الشهور القليلة الماضية أمكن: (1) ملاحظة شبه صمت إعلامي لدى دولة العراق الإسلامية بالذات يصعب تفسيره خاصة وأن الأذرع الإعلامية لها ليست بالقليلة ولا العاجزة عن العمل، بل أن الصمت شمل التوقف عن التعليق على أحداث كبيرة مثل استئناف الشيخ أسامة لخطاباته الصوتية والمرئية وقلة في البيانات العسكرية حتى لدى مؤسسة الفرقان بينما شهدنا تقدما إعلاميا لدى أنصار السنة ونشاطا عسكريا مكثفا للجماعتين كما لو أن هناك تكامل في العمل بينهما أو تبادل أدوار، كما (2) لاحظنا تقدما واضحا للعمل الأمني على حساب العمل العسكري الذي يستهدف الأمريكيين، ونحسب أن هذا ليس عجزا عن مواجهتهم بقدر ما هو نقل للأولويات، وإلا فمن يستطيع استهداف رؤوس الصحوات لا شك أن بإمكانه استهداف أسيادهم، ثم (3) استفقنا قبل بضعة أيام، وبحسب بيان للدولة، على نمط جديد من مواجهة الصحوات يتمثل في الانتقال من الاستهداف الأمني المركز، باستخدام أفراد أو جماعات مقاتلة صغيرة، إلى هجمات استراتيجية تشارك فيها أعداد ضخمة من المقاتلين كما حدث في منطقة عرب الجبور جنوب بغداد (ليلة 25/11/2007) حيث تم مهاجمة خمسة أو ستة مقرات للصحوات وإيقاع مجزرة في صفوفها وعتادها بعد قطع خطوط الإمداد والإسناد ونصب الكمائن الدفاعية في ذات الوقت الذي تقوم فيه مفارز أخرى بالهجوم على المقرات، وليستمر الاشتباك عدة ساعات ينتهي بمقتل نحو 50 عنصرا وقائدا من الصحوات فضلا عن غنم أسلحة كبيرة ومعدات وآليات عسكرية من نوع همر. ولا شك أن هجمات من هذا النوع تحتاج إلى تحضيرات كبيرة على المستويات الأمنية والعسكرية والبشرية لتأمين مناطق العمليات والهجوم وتحقيق نجاحات من هذا النوع ينبئ بنقلة نوعية بارزة في مواجهة الصحوات التي بدت أضعف من الدفاع عن نفسها فكيف بها تدافع عن الأمريكيين أو تحمي مناطقها كما تقول؟

ثانيا: سياسة المراجعات

إذا كانت القوى الأجنبية الغازية للبلاد الإسلامية أو المحتلة لها قد لجأت إلى مشاريع الصحوات لضرب القوى المناهضة لها وخاصة القوى الجهادية بوصفها الخصم الأعنف؛ فقد لجأت أغلب الدول العربية، كقوى محلية، خاصة تلك التي تشهد ساحاتها حراكا مسلحا لجماعات إسلامية، إلى وسيلة أشد طرافة وغرابة من مشروع الصحوات هي ما بات يطلق عليه مصطلح "المراجعات الفقهية" الذي تقابله الجماعات الجهادية بمصطلح "التراجعات".

هذه المراجعات التي دشنتها جماعة الإخوان المسلمين في كتاب "دعاة لا قضاة" وغيره الكثير من التصريحات، ثم ترجمتها الجماعة الإسلامية عبر ما عرف بـ "مبادرة وقف العنف"، يجري تعميمها الآن على كافة الساحات التي تشهد حراكا مسلحا أو فقهيا ضد ما تسميه هذه الجماعات قوى "الطاغوت" أو "محاربة اليهود والصليبيين". أما أكثرها حضورا على الساحة فهي تلك المراجعات التي يجري الترويج لها حاليا في مصر بقلم الشيخ سيد إمام أو تلك التي يجري العمل على إخراجها قريبا في السعودية والمغرب وتونس والجزائر وربما فيما بعد دولا أخرى. لكن، بعد التمحيص والتدقيق، تبيَّن لنا أننا بصدد ظاهرة اجتماعية قيد التشكل، وبلغة أكاديمية صرفة يمكن ملاحظة بعض الخصائص بيسر وإخضاعها للدراسة المعمقة لمن رغب في ذلك:

• أنها خرجت جميعها من السجون الأمر الذي يسهل على من هم خارج السجون من الجماعات الجهادية الطعن بها باعتبار السجون موطن إكراه وتعذيب ولا يعتد فقهيا بموقف السجناء سواء كانوا أفرادا أو قيادات. والحقيقة أن بعض من هم خارج السجون إما أنهم طعنوا بها جملة وتفصيلا أو أنهم رفضوا المحتوى الذي جرى ترويجه حولها. ولم يسجل حتى الآن موقفا واحدا من رموز جهادية كبرى خارج السجون أو هيمنة الأجهزة الأمنية للدولة.

• كما أن المراجعات تتجه نحو الشمولية لتمس جماعات متعددة في عدة بلدان عربية وربما غير عربية مما يجعلها ظاهرة سياسية أو أمنية بامتياز، بمعنى أن السلطة ضالعة في إخراجها وليس صحيحا أنها مبادرة طوعية من لدن الأفراد والجماعات المعنية خاصة وأن انتشار الظاهرة واتخاذها صفة العمومية لا يمكن أن يكون صدفة، ولهذا يرى البعض من المخالفين لها، سواء كانوا إسلاميين أو حتى مجرد أكاديميين، أنها وليدة "صفقة" صيغت في أقبية السجون بين قادة الجماعات والأجهزة الأمنية على الخصوص فرضتها قسوة حياة السجون وشدة التعذيب فيها والأحكام العالية التي تصدر بحق المعتقلين، والراجح أن الصفقة تبدو ترجمة عملية لما سبق وأن صرح به فؤاد علام في التعامل مع السجناء والمطلوبين للسلطة من خلال سياسة: "الضرب في سويداء القلب"، وهي عبارة يمكن تحميلها بأقصى ما يتوقع العقل من ضغوط.

• لعل أبرز ما تميزت به هذه المراجعات أنها قدمت إصدارات فقهية تنقض ما سبق وأعلنته نقضا تاما، وكأن مجرد الإعلان عن "توبة" غير كافي، وهي حالة فريدة في التاريخ الفقهي الإسلامي، إذ يمكن أن يتفهم المرء إدانة أخطائه وتراجعه عنها لكن أن يُحَمَّل النص هذه الأخطاء فهي مسألة غير مسبوقة، فضلا عن أن الظاهر من النصوص أنها لم تتعرض إلى الأخطاء بقدر ما تصدت لإدانة العمل والنص ذاته بما يشبه عملية تطويع له بما يتناسب وخطاب الدولة الرسمي، ولعل من المثير حتى الدهشة أن الجماعة الإسلامية في مصر تفوقت في أطروحاتها على خطاب السلطة ذاته، وإلا فمن ذا الذي يعتبر، من العامة وليس فقط من الخاصة، أن السادات شهيدا ويسمي الجهاد عنفا؟

• الاستدلال بنصوص المراجعات كدليل شرعي لإدانة أصحابها أولا وإدانة كل عمل يستهدف "أنظمة الطواغيت"، على أن يجري تسويق الاستدلال كحجة شرعية ضد كل القوى المناهضة أو المعارضة للأنظمة السياسية العربية، لذا فإن المراجعات وإن بدا منها أن الجهاديين وأنصارهم هم المستهدفون بالدرجة الأساس إلا أنه ليس هناك ما يمنع من استهداف كافة خصوم الأنظمة السياسية من العامة والخاصة على اختلاف توجهاتهم الأيديولوجية بما في ذلك عامة الناس بدعوى أن العلماء سبق لهم وأدانوا أعمالهم، فهل أنتم أعلم منهم؟

• الملاحظ على النصوص الجديدة أيضا أنها تصدر على متن وسائل إعلام غير محايدة، فضلا عن كونها جزء متينا من الكورس الإعلامي للدولة. ومثل هذا الأمر يشكل أحد نقاط الضعف فيها ويطعن في مصداقيتها ويفقدها الرواج الحقيقي لها رغم أنها وسائل إعلامية كبرى، فمن ذا الذي يثق مثلا، من المجاهدين أو أنصارهم، في جريدة المصري أو الجريدة الكويتية أو دار عبيكان للنشر والتي سبق لها ونشرت كتب المراجعات للجماعة الإسلامية؟
• اشتمال المراجعات على لغة استفزازية فاضحة تكاد تتماثل إلى حد التطابق مع لغة النظام وحتى لغة الأعداء التاريخيين للأمة، وهذا أمر يزيد من حدة الشكوك في المراجعات ويقلل من جدواها وفاعليتها كونها تنطوي على إساءات لمشاعر العامة قبل الخاصة، وما يزيد الطين بلة انسياق بعض المحللين وراء ذات اللغة، فإذا كانت الدولة أو أنصارها بصدد النجاح في مساعيها والقيام بمصالحة اجتماعية فلا بأس ولكن ليس باستخدام لغة إذلال وتحقير وتحريف وإهانة وغطرسة وتحدي من شأنها أن تهدم ما تبنيه، وهذا الأمر ينطبق حتى على بعض القيادات الإسلامية المعنية بالمراجعات.

في المحصلة فإن: ظاهرة المراجعات على النحو الذي تظهر به من: (1) داخل السجون وهي (2) محملة بنصوص تنقض ما سبقها (3) بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ الإسلامي و (4) الزعم بأن لا قول بعد قول سيد إمام و (5) كأن الرجل معصوما و (6) أن عقيدة الجهاد تبدأ من هنا فقط و (7) كأن ما سبقها من بحور المؤلفات لم يعد قائما، من شأنه أن يجعل من المراجعات ظاهرة تتمتع بكل صفات الفرادة بامتياز، فقد يكون هناك علماء وفقهاء راجعوا ما كتبوه في ضوء تغير الواقع لكنهم لم ينقضوا النص أو يلتفوا عليه ابتداء من الشافعي وانتهاء بسيد قطب، وإذا كانت المراجعات بنظر من ينتجها ويتبناها ويروج لها كما لو أنها آخر المطاف وأن على الأمة اقتفاء أثرها والعمل بها فمن الواضح أنها تستهدف العقيدة بالذات، وفي هذه الحالة فمن باب أولى، درء للمفاسد والفتن، أن تعرض على كافة الفقهاء والعلماء والباحثين والأكاديميين من شتى الأطياف للنظر فيها وتقرير مدى شرعيتها. وفي السياق لا مفر من أن يكون للمجاهدين وعلمائهم الحق في إبداء الرأي كونهم المعنيين فيما يسمى بالمراجعات، أما اعتبارهم خصوم وخوارج وفئات ضالة وما إلى ذلك من التسميات فسيكون سهلا عليهم اعتبار أصحاب المراجعات أيضا خصوم.

ثالثا: نموذج الإمارات الإسلامية

إن أكثر ما يثير الانتباه في السياسات العربية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الثانية (1991) وحتى الآن هو ذاك الانحدار المكشوف في أدائها ومواقفها إلى ما يشبه انعدام الوزن بشكل تام. أما بعد هجمات 11 سبتمبر فلم يعد ثمة حرمة تذكر لعقيدة أو شريعة أو وطن أو جماعة أو فرد أو حزب أو رئيس أو زعيم أو قيم أو أخلاق أو حقوق أو تاريخ أو حضارة أو مسجد أو بيت ولا حتى لجسد أنثى أو طفل أو شيخ أو شاب استباحت عفته أو براءته قوى العدوان أو اللقطاء ممن جمعتهم أنظمة الأمن وشكلت منهم جلادين في السجون. بل أننا كلما فقدنا قيمة أو حق أو تشريع أو مصدر قوة أو حصانة وضُيقت على الناس الهوامش وبعض مساحات الحرية على ندرتها اشتد الغلاء والبلاء وفُتحت لنا أبواب التحلل الاجتماعي على مصراعيها وأبيحت العلاقات المشبوهة مع أعداء الأمة وسُخرت وسائل الإعلام للرويبضة لتتحدث باسم العامة، وما دونها قتلة أو متطرفين، وحوصرت الشعوب والأوطان وهُدد الأفراد بأرزاقهم وعلت أصوات الانتهازيين والمنافقين والكذابين وانقلبت المعايير والبديهيات والثوابت والتمسك بالحقوق إلى غلو وتنطع وأوهام.

كثير من المشايخ والفقهاء عزّ عليهم الدعاء على اليهود والمشركين وعزّ عليهم الجهاد في زمن الجهاد، أما الفلسطينيين فصار المتصهينون منهم يسابقون اليهود والأمريكيين في جلد الذات والانتقام منها وحتى تدميرها كما لو أنهم مصابون بنزعة المازوشية، وها هو مندوب السلطة في مجلس الأمن يقدم مشروعا يطالب فيه اعتبار حركة حماس منظمة خارجة عن القانون! ويقف بالمرصاد جنبا إلى جنب مع إسرائيل لمنع مشروع عربي، ويا للمفارقة، يطالب بفك الحصار عن غزة، أما سلام فياض رئيس الحكومة الفلسطينية ورجل أميركا القادم فيحذر عمرو موسى من التدخل في الشأن الفلسطيني ويهدد وزير الخارجية السوري بتحريك المعارضة في الخارج إذا ما تدخل هو الآخر في الشأن الفلسطيني ولو ناصحا! ترى: من أين لهؤلاء القوة والشجاعة كي يهددوا ويتمنوا الشفاء لقتلة العصر ومجرميه ويتحالفوا معهم لإحكام الحصار على غزة ويصدروا المراسيم بحل حركات المقاومة؟ وبأية منظومة أخلاقية أو حيوانية منحطة يصدر هؤلاء تهديداتهم وتتدفق مشاعرهم "النبيلة" تجاه أعداء الأمة والدين بينما تتكلس تجاه شعبهم؟

لا أحد من العرب أو الفلسطينيين قادر أن يفعل شيئا يذكر لا لنفسه ولا للقضايا العربية الكبرى ولا حتى للبؤس الاقتصادي والاجتماعي وحالة التيه والضياع الذي تعيشه الأمة، وكلهم بلا استثناء استدعيوا إلى أنابوليس راغبين أو مكرهين ليكونوا شهودا رغما عنهم على تصفية القضية الفلسطينية بالمواصفات الأمريكية والصهيونية. هذا الانحدار والرضوخ التام للمنطق الأمريكي والإسرائيلي كشف وجه أمة لم يعد لديها أية مرجعية إطلاقا ولا إرادة ولا بصيص أمل، وبات يتضخم ككرة الثلج معلنا بأن الأمة تتجه نحو الطريق المسدود لا محالة.

وبينما نحن بانتظار أنابوليس ومحاولات تحطيم الجهاد في العراق وإذلال المجاهدين وأنصارهم عبر سياسة المراجعات تناقلت الشبكات الجهادية عن موقع القفقاس رسالة للرئيس الشيشاني دوكو عمروف يعلن فيها قيام إمارة القوقاز الإسلامية، وهو إعلان إن قُرئ بموضوعية صرفة بعيدا عن السخرية والتجاهل فهو بلا شك إعلان عاصف بكل المقاييس، ولعل بضعة ملاحظات في صميم الإعلان تكشف أنه:

• تجاوز حدود الشيشان ليشمل عدة جمهوريات ومناطق قوقازية واقعة جميعها تحت الحكم الروسي، وهذا بحد ذاته سابقة سياسية في تسجيلها لأول عبور سياسي إقليمي مقارنة بما سبقها من إعلانات مماثلة كإمارة أفغانستان ودولة العراق الإسلامية اللتين أعلنتا على أراض محددة ولم تستطع أي منهما أن تسجل عبورا ولو محدودا اللهم إلا في منطقة وزيرستان على الحدود المشتركة بين باكستان وأفغانستان. إذ أن مناطق القوقاز، خاصة الحدودية منها، لطالما شكلت ما يشبه الملاذات الآمنة بين الفينة والأخرى منذ اندلاع الحرب الشيشانية عشية تفكك الاتحاد السوفياتي، ويبدو أنها الآن، مع الإعلان، قد تحولت إلى ما يشبه مناطق نفوذ تحت سيطرة المجاهدين.

• وأنه لم يلتزم بحدود الإمارة التي شملت، بحسب الإعلان "داغستان, والشيشان، وإنغوشيا, وأوستيا, وسهل ناغوي, والمناطق المجتمعة من كبرداي وبلكار وكاراشاي" لأن الإمارة محتلة حاليا ولأن هناك أراض تاريخية للمسلمين يتوجب على المجاهدين استرجاعها قبل رسم الحدود.

• وأن الرسالة صيغت بموجب السياسة الشرعية في تحدثها عن الجهاد وأحكام الشريعة وشروط النصر والسلطة، بل أن عمروف تحدث بلغة صريحة تماثل لغة أبو عمر البغدادي في كثير من المواضع خاصة فيما يتعلق بتلقيه بيعة من المجاهدين لم يكن يسعى لها ولا يتمناها: "ويعلم سبحانه وتعالى أنني لم أرغب في هذا ولم أطلب المسؤولية فلم أفكر قط أنني قد أتحمل هذا العبء"، بل هي ذاتها لغة خطاب القاعدة وأبو سياف في الفلبين ولغة المحاكم في الصومال وفتح الإسلام في لبنان وكافة حركات الجهاد العالمي الأخرى حيث تكون.

• جاء الإعلان بمثابة دستور للإمارة، فلا أظن أحدا سيسمع بعد اليوم عن المطالبة فقط بتحرير الشيشان أو الجهاد من أجل الاستقلال كما كان سائدا قبل ذلك. فالإعلان يصرح بجلاء: "نحن جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية... إن الكفر ملة واحدة ... إخواننا يقاتلون اليوم في أفغانستان والعراق والصومال وفلسطين. إن الذين يهاجمون المسلمين هم أعداء أيا كانوا. عدوتنا ليست روسيا فقط, بل كل من شن الحرب على الإسلام والمسلمين هم أعداؤنا لأنهم أعداء الله".

• وما يؤكد أن الرسالة هي خطاب جديد وفريد من نوعه أنه للمرة الأولى يتلقى رئيس شيشاني بيعة ليس فقط كأمير في منطقته أو في القوقاز عموما بل كقائد له السلطة الحربية والشرعية التامة بهدف إعلان الحرب: "أنا أعلن لكل المسلمين أنني أعلن الحرب على الكفار تحت راية "لا إله إلا الله". وهذا يعني أنني كأمير للمجاهدين في القوقاز: (1) أرفض أي شيء مقرون بالطاغوت و (2) أرفض كل القوانين الكافرة التي شرعت في العالم و (3) "أرفض كل القوانين والأنظمة التي شرعت من قبل الكفار في أرض القوقاز و (4) أرفض كل الأسماء التي يستعلمها الكفار لتقسيم المسلمين و (5) أعلن أن الكيانات الإثنية والإقليمية والاستعمارية المسماة بـ "جمهوريات شمال القوقاز" أو "جمهوريات جنوب القوقاز" وغيرها من الأسماء غير قانونية و (6) أعلن رسميا إنشاء إمارة القوقاز في كل أراضي القوقاز حيث بايعني المجاهدون لإعلان الجهاد".

• كما أن الرسالة كشفت عن معارضة شديدة قد تتعرض لها الإمارة الوليدة من قبل الخصوم وحتى من داخل الأطر السياسية وربما العسكرية للمجاهدين بما يشبه، في بعض الجوانب، ما تعرضت له دولة العراق الإسلامية. ومما توقعه عمروف حول إعلان الإمارة: "أن جميع المنافقين المتعلمين وغير المتعلمين سيزعمون أننا نؤسس دولة مثالية غير واقعية"، وأن هؤلاء سيعمدون إلى: "إدانة هذا الموقف من المنافقين والفزع من ضعاف المسلمين" لكن ليس ممن وصفهم بـ "المسلمين الحازمين"، أو أن الإعلان سيكون تعبيرا عن: "سياسة حمقاء وستجمع العالم كله ضدنا"، ولا شك أن الرئيس الشيشاني كان على علم بمضمون المعارضة التي ينتظرها مشيرا إلى أن: "إمارة القوقاز أكثر واقعية من جميع الكيانات الاستعمارية المصطنعة الموجودة اليوم" ومستهجنا بالقول: "سبحان الله! وكأن كل العالم من كفار ومرتدين لا يشنون حربا ضد المسلمين"!

إنه إعلان ولاشك يستحق النظر أكثر من مرة ويستحق التحقق والبحث للوقوف على حقيقته وتداعياته المحتملة على الساحة الإسلامية سواء في القوقاز أو في منطقة وسط آسيا عموما. لكن ما ينبغي تثبيته في خاتمة القول هي خلاصات من المستحسن التعمق فيها أكثر مما سبق:
• إذا كانت الصحوات هي آخر ما في جعبة الأمريكيين فلا شك أن المراجعات هي أيضا آخر ما في جعبة الأنظمة السياسية. فالحقيقة الأكثر جلاء أن مشروع الصحوات هذا مثَّل، بامتياز، آخر ما في جعبة قوى الاحتلال والقوى المراهنة على العملية السياسية، فإذا ما سقط فبلا شك سيسقط معه الاحتلال وكافة مشاريعه ليس في العراق فقط بل في كل منطقة ساخنة يجري تعميم النموذج فيها. أما المراجعات فإذا ما استمر تقديمها بطريقة استفزازية إعلاميا فأحسب أنها ستسقط كما سقطت قبلها مراجعات الجماعة الإسلامية، أما الحقيقة الأكثر سطوعا فهي تلك التي تشير إلى أن ناجح إبراهيم أو كرم زهدي أو غيرهم من قادة الجماعة لا يبدو أنهم يتمتعون بحرية حتى هذه اللحظة، وهم بادون للعامة كسيري الأنفس مما يجعل من المراجعات قابلة للانفجار في أية لحظة خاصة كلما اشتد الإذلال والتحقير لرموزها على شاكلة: "المراجعات طوعية؟ أليس كذلك؟ نعم طوعية ... إنها باختيارنا ... وليس هناك أي ثمن مقابلها ولم نطلب شيء"! ليذهب المنتشون بها لمخاطبة الأنصار أو المعارضين بكثير من التحقير والسخرية: "ها هم شيوخكم سقطوا".

• أما الإمارات الإسلامية التي تظهر هنا وهناك على شاكلة ما يسميه أبو بكر ناجي "مناطق التوحش" فهي أول خطوات الجهاد العالمي نحو ما يرى رموزه وأنصاره بأنه البواكير الأولى لخلافة راشدة قيد التشكل. وفي هذا السياق لم يعد مهما استمرار الإمارة أو انهيارها كما حصل في "إمارة نهر البارد" بقدر ما يبدو مهما للغاية ملاحظة أن تيارات الجهاد العالمي ماضية في خلق العديد من مناطق التوحش بقطع النظر عن أي ميزان قوى أو معارضات منتظرة. فمن الواضح أن رموزا جهادية جديدة آخذة في الظهور على سطح الأحداث العالمية بما يؤشر على أن تيارات الجهاد العالمي ستكون واحدة من أهم الفاعلين الاستراتيجيين على مستوى العالم في المدى المنظور. وأن تحولات الخطاب الشيشاني الجديد نحو العالمية سيلقي بظلال مرعبة على ما يسميه بـ "ملة الكفر واحدة".

• إن بن لادن بوصفه رمز الجهاد العالمي، فضلا عن الرموز الأخرى التي تتشكل الآن في مناطق متعددة، قد سبق له وأبدى رأيه في مسألة الصحوات في خطابه لأهل العراق لكنه لم يتحدث بعد بصريح القول في مثل هذه الإمارات خاصة دولة العراق الإسلامية ولو أنه من المستبعد جدا أن يكون موقف الرموز الأخرى المؤيدة لها كالظواهري وأبي يحيى الليبي أو أبي الليث أو عطية الله متقدمة على رأي الشيخ الذي جرى التعبير عنه بالإشارة في الخطاب السابق. كما أن الشيخ لم يبد رأيه بعد في المراجعات، ولأن هناك سعة من الوقت للنظر في المسألة إلا أنه ليس متوفرا كثيرا فيما يتصل بما يثيره الخصوم عن شبهات في العلاقة مع إيران خاصة وأن هذه الأخيرة قد تكتسح الساحة في المدى الراهن على خلفية أنابوليس والانكفاء العربي عن مواجهة المشروع الأمريكي والإسرائيلي. ورسالته إلى الشعوب الأوروبية خصصت للدفاع عن أفغانستان وبيان الظلم الأمريكي والأوروبي الواقع عليها وعلى أهلها وكذا إدانة الأخلاق الحربية للأمريكيين وحلفائهم في استهدافهم للأبرياء ودعوة الحكومات الأوروبية إلى سحب قواتها من أفغانستان التي لم يكن لها شأن في هجمات 11 سبتمبر خاصة وأن الأمريكيون راحلون. لا شك أننا بانتظار المزيد من القول، فلننتظر ونرى.
الاسمبريد إلكترونيرسالة