JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

القاعدة وخلاصات الانعطافة - 2


أكرم حجازي---
ما من جماعة أو تنظيم أو حزب أو حركة في العراق تعرضت لهجمة شرسة شاملة كما تعرضت لها دولة العراق الإسلامية. حتى أن الكثير من المحللين والمراقبين للمشروع الجهادي قد جزموا أو خالجهم شعور بأن الدولة قاب قوسين أو أدنى من الانهيار والزوال أو الضعف على أقل تقدير. بل أن بعض المحللين تفاءل، في خضم الفتنة، ببضعة شهور وتكون الدولة أو القاعدة في غياهب النسيان. حتى الأنصار والمتعاطفين معها لم يفلتوا من الحيرة والارتباك في ضوء الكمون الذي لعبته "الدولة" في الساحة مع الخصوم.


لا شك أن بريق المشروع الجهادي في العراق خفت كثيرا على المستوى الشعبي الذي رقص طربا على رؤوس الأمريكيين وهي تتساقط كالفرائس بفعل هجمات القناصين أو على أشلاء جثثهم المقطعة وهي تتطاير من الهمرات وكاسحات الألغام والمصفحات تحت صعقات العبوات الناسفة. هكذا تفاعل الناس مع المشروع الجهادي في العراق. لكن هل يعكس هذا المؤشر الشعبي، منفردا، ظواهر المشروع الجهادي وبواطنه أو خصوصياته خاصة وأنه تعرض لمحن بالغة القسوة على المستويات الإعلامية والعسكرية والأمنية؟ هذا ما سنتوقف عنده لاحقا في ضوء خطابي بن لادن والبغدادي.

أولا: منطق الخطابين

يعتقد بن لادن، كغيره حتى من المسلمين، أن تحرير فلسطين كاملة لا بد وأن ينطلق من الساحة الأردنية: "فهذا هو السبيل الشرعي وهو السبيل الواقعي العملي". ورغم أنها المرة الأولى التي تحدد فيها القاعدة هدفا بعينه إلا أنها تظل قراءة تقليدية لا تختلف عن قراءة أية جماعة أو حركة استهدفت تحرير فلسطين حتى لو كانت علمانية. لكن حين يتجاوز بن لادن عن واقع فلسطين خاصة وأن: "المقومات المطلوبة لكي يحقق الجهاد غاياته ما زالت بحاجة إلى أن تستكمل"، وحين يقطع كل أمل مع الدول الحيطة بفلسطين، فـ: "لا بد من البحث عن دول خارج دول الطوق"، وهذا هو الجديد بحد ذاته وليس عبور الأردن الذي يتطلب قبل أي أمر آخر (1): " هزيمة الحليف الأكبر للصهاينة" و (2): "تحرير أرض الرافدين" ثم (أخيرا): " من الأردن تكون الانطلاقة الثانية إلى الضفة الغربية وما جاورها". ولأنه ما من قوة، غير المجاهدين، تستطيع مواجهة الأمريكيين وهزيمتهم في المنطقة فهو يشدد على: "دعم المجاهدين في العراق بكل ما يحتاجون إليه" كشرط لإنجاز المهمة نظرا لغياب أي مشروع جهادي "حقيقي" في المنطقة قادر على تجاوز العقبات مثلما هو الحال في العراق. فما الذي قصده بن لادن إذن؟

ببساطة؛ هو ينسف، بشهادته هذه وتصريحاته، كل التكهنات التي اعتقدت بضعف المشروع الجهادي في العراق أو حتى انحساره، فهو بالنسبة للقاعدة ما زال يمثل: "الفرصة الثمينة النادرة للصادقين في رغبتهم في تخليص الأقصى"، ولا ريب أن بن لادن لا يبدو أنه بصدد الحديث عن تيارات جهادية أخرى، خارج دول الطوق، غير التيار السلفي الجهادي وبالذات دولة العراق الإسلامية.

هذا المنطق للقاعدة عبر عنه البغدادي، في صيغة وقفات، بعيد ساعات من خطاب بن لادن في سياق رده على خطط الرئيس الأمريكي أوباما الانسحاب من العراق. لكن قوة الخطاب " حصاد الخير - 11/3/2009" لم تكن في "الوقفات" بقدر ما كانت في أواخرها حيث:

1) يختص البغدادي جنوده برسالة حصرية تقول بأن: " قضية الشريعة والحكم هي محور جهادنا وينبغي أن لا تغيب عن أذهان رجالنا، ونكرر مرة أخرى أننا لا نقاتل لأجل الأرض إنما نقاتل لتكون كلمة الله هي العليا في الأرض"، لكنها، مع ذلك، رسالة تخاطب "كل مسلم"، داخل العراق وخارجه، ممن كان له يد في إعاقة المشروع الجهادي أو الإضرار به، مبديا "الصفح" وبنفس الوقت "العون" للوقوف (1): " في وجه التحالف الصليبي المجوسي" و (2): "حتى لا تباع بغداد بثمن بخس لمجوس إيران وعملائهم" خاصة وأن بغداد تكاد تتحول إلى مدينة شيعية بخلاف المروجين لمقولة أن مشروع الصحوات حمى بغداد من التشيع.

2) الإعلان عن انتهاء "خطة الكرامة" التي بشر بها في خطابه " فتح من الله ونصر قريب - 2/3/2007" ردا على "خطة أمن بغداد" وانطلاق مرحلة "حصاد الخير"، يعني إسدال الستار على مرحلة الفتنة الكبرى التي تعرض لها المشروع الجهادي لا فقط "جدولة الأمريكيين لانسحابهم والاعتراف الضمني بالهزيمة". وعليه فليس من المستبعد أن تكون استجابة د. عبد الله الحافظ الناطق باسم "جامع" لخطاب البغدادي حول "الصفح" و "العون" واقعة في سياق المرحلة الجديدة بالضبط.

3) أما خاتمة الخطاب فكانت بحق هي المنطق المعبر عنه حقيقة. فهو يطمئن كل المسلمين ويبعث برسالة صريحة وحاسمة لكل المراقبين، وأولئك الذين " زعموا " أو اعتقدوا أو داخلهم الشك والحيرة في واقع ومستقبل المشروع الجهادي في العراق بأنْ: " لا تخافوا ولا تخشوا على الجهاد في العراق وطيبوا نفسا فقد انكسرت حدة الموجة ". بل أنه يصف المشروع الجهادي بعبارات قوية من الثقة بكونه: "أشد من الجبال رسوخا وأعز من النجوم منالا".

هكذا إذن يبدو خطابي بن لادن والبغدادي محملين برسائل إخبارية صريحة ومبشرين بسلامة المشروع الجهادي ودولة العراق الإسلامية. فما هي حقيقة الموقف في العراق؟ وما هي المؤشرات التي يمكن أن نستدل بها على الثبات؟

ثانيا: لعبة الخصوم

منذ بدأت ملامح الفتنة تلوح بالأفق، بعد إعدام الرئيس العراق صدام حسين، كشف البغدادي في خطابه: "قل إني على بينة من ربي – 13/3/2007" عما أسماه بـ "حزب الله السعودي" وبـ "طائفة أدعياء السلفية" والفئات المعادية للمشروع، وألمح في نفس الخطاب أن بعض الجماعات الجهادية: "دعوا أصحابهم وعشائرهم إلى الدعة والراحة" متسائلا: "كيف حال الجهاد في بلاد الرافدين لو لم يكن هناك مجلس شورى المجاهدين ولا دولة الإسلام؟ وكيف تصير الأمور لو ترك كل أبناء الدولة الإسلامية السلاح، وقعدوا عن الجهاد ؟" أو تصرفوا بذات المنطق؟ يجيب: " الجواب معروف ... استباحة للعرض، وإبادة للحرث والنسل"، لذا فهو يتحدى مثل هذه الجماعات بشكل صارخ: "إن كنتم لا تصدقون فإني أطلب من أي جماعة مقاتلة تدعي عصمة المنهج وصفاء الراية وقوة البأس على الأعداء أن تنشر ثلاث عمليات عسكرية مصورة لاقتحام مقرات أمريكية، لا بل عملية مصورة واحدة لاقتحام أو دخول ثكنة عسكرية أمريكية واحدة".

في ذلك الوقت اعتبرت تصريحات البغدادي هذه استفزازية لكثير من الجماعات الجهادية، لكن بعضها لم يعقب عليها ربما لعلمه، على الأقل، بوجود نوايا من هذا القبيل خاصة وأن هناك أموال صرفت على فئات محسوبة على الجهاد دون أن تؤدي أي عمل جهادي كما لو أنها أعدت لتكون خزينا بشريا عند الحاجة، بل أن هناك أموال صرفت على قضايا مدنية لا علاقة لها بالجهاد لا من قريب ولا من بعيد. فما الذي كانت تخطط له؟

لكن تصريحات البغدادي، في هذا السياق، توالت تباعا. فقد أصدرت مؤسسة الفرقان التابعة لدولة العراق الإسلامية خطابا صوتيا له بعنوان: "فأما الزبد فيذهب جفاء - 4/12/2007". وبينما شرعت قواته بخوض حرب شرسة ضد رؤؤس الصحوات وأعوانهم في محاولة للقضاء على الجهاد في العراق: " وقفت معظم الفصائل السلفية منها والوطنية وقفة المتفرج بل والطاعن فينا وبكل وسيلة".

وخلال لقائه الصوتي المفتوح مع "الفرقان - 24/10/2008"، كان أبو حمزة المهاجر (وزير حرب دولة العراق الإسلامية) أكثر صراحة في بيان أهداف القوم، خاصة وأن الهجمة على المشروع الجهادي ضعفت وانكشفت الأوراق بصورة جلية مع صدور "سفر الحقيقة - 14/7/2008" عن جماعة أنصار الإسلام وتمايز جيش المجاهدين "يا عباد الله تمايزوا – 24/7/2008" وتفكك جبهة الجهاد والإصلاح. ومن اللافت في هذا السياق تعقيبه على من وصفهم بـ: " أصحاب المناهج الفاسدة ودعاة الوطنية (ممن) أرادوا أن يقطفوا ... ثمرة جهاد" مشيرا إلى أن: " هناك أطراف تخزن السلاح وتجهز المجموعات الأمنية لليوم الذي يخرج فيه المحتل, فتضرب صاروخاً وتدخِّر عشرة". فإذا ما حانت ساعة الانسحاب الأمريكي: " تكون المعادلة هي: مجموعة من العلمانيين والوطنيين والبعثيين لم تُجهد نفسها في قتال حقيقي تمتلك المال والسلاح والرجال, ومجاهدون في سبيل الله خرجوا منهكين بالجراح أنفقوا ما في جعبتهم من مال وسلاح". حينها فقط يمكن ضرب مشروع الدولة وإسقاطه لصالح المشروع الوطني.

إذن لعبة الخصوم قضت بالاحتفاظ بقواتها وتنمية إمكانياتها مقابل إنهاك القاعدة وفيما بعد "الدولة" منذ وقت مبكر بحيث يجري استنزاف طاقاتها ومخازنها وكادرها وعناصرها ومصانعها ومختبراتها وإمكاناتها العسكرية سواء في محاربة الأمريكيين أو في محاربة الصحوات، حتى إذا ما انسحبت قوات الاحتلال فلن يكون بمقدورها تحقيق أي مكسب.

لا شك أن سلسلة التصريحات التي ذكرناها تعد مؤشرات حاسمة على تنبه دولة العراق الإسلامية إلى مساعي خصومها منذ وقت مبكر. فهل يمكن القول بأن المشروع الجهادي، بهذه التوصيفات، انكفأ؟ أم تغير أداؤه؟ وما الذي فعلته الدولة لتتجنب هذا الفخ؟

ثالثا: الوجه الآخر للصورة

يبدو أن عملية الاستنزاف اشتغلت على أكثر من صعيد، فمن جهة جرى تصعيد مشروع الصحوات ليبلغ مديات اجتماعية وسياسية مخيفة ومن جهة أخرى دشنت القوات الأمريكية والحكومية سلسلة من العمليات العسكرية والأمنية الواسعة النطاق على ديالى وبغداد وصلاح الدين والموصل وسامراء وكركوك وغيرها. وقد بدا حقا أن المشروع الجهادي تراجع فعلا تحت كثافة الهجمات المنظمة. لكن الأقرب إلى الحقيقة أن الاستراتيجيات وطرق المواجهة هي التي تغيرت بصورة شبه جذرية. فالأمريكيون لم يعودوا يتحركون بين الأحياء والريف، كما كان الحال سابقا، إلا بعد تأمين المنطقة من قبل الصحوات والقوى المتعاونة معهم، وبالتالي فقد لعب هؤلاء دور العقبات الكبرى في النيل من الأمريكيين، ليس بوجه "الدولة" فحسب بل وبوجه كافة الجماعات الجهادية بما فيها تلك التي وقفت على الحياد تجاه الصحوات أو شاركت فيها أو قدمت لها الغطاء السياسي والأمني. وكان من الطبيعي أن تقل الخسائر بين الأمريكيين أو حتى تنعدم في كثير من الأشهر خاصة وأنهم باتوا يدفعون ثمن أمنهم من دماء من يفترض أنهم خصوم الاحتلال. وكان من الطبيعي أيضا أن يبدو المشروع الجهادي متراجعا في حين أنه ما من مؤشر غير الخسائر الأمريكية على التراجع. والواقع يقول بأن مقتل صحوي، في هذه المرحلة، كان يعادل مقتل جندي أمريكي مثلما أن مقتل أحد الرؤوس لا يقل أثره عن مقتل ضابط أمريكي إن لم يكن أزيد بالنظر إلى خطورة تفكك الجبهة الداخلية.

لذا فلو نظرنا إلى المسألة من زوايا أخرى فمن المؤكد أن الصورة ستختلف كلية. فالقاعدة، حين تدرك أنها مستهدفة عسكريا بالاستنزاف وأمنيا بالصحوات وإعلاميا بالتشويه ستغير قطعا من وسائل قتالها. وهذا ما حصل. فالجماعة باتت تعمل تحت الأرض تماما، وباتت حريصة على عدم دخولها في مواجهات عسكرية شاملة من شأنها أن تؤدي إلى الانكشاف والدخول في عمليات كسر عظم لا ينفع معها الوضع الجديد، وهو ما لاحظناه على وجه الخصوص في فشل الحملة على الموصل حتى أن طارق الهاشمي شكا من كون الاعتقالات في الحملة كان قليلا. وهكذا أخذت المواجهات طابعا أمنيا أول ما استهدف قوى الصحوات باعتبارها الخطر الأكبر الذي يهدد المشروع الجهادي فضلا عن كونها العائق أمام الوصول إلى الأمريكيين.

إذن ما وقع فعلا هو تغير في الأداء والأهداف والأدوات والوسائل، وبهذه الطريقة كأن القاعدة تريد أن تقول لخصومها: إذا أردتم استنزافنا فلن نفرط في قوتنا وإذا أردتم إرهاقنا فلن ندخل في مواجهات شاملة وإذا حاربتمونا بالصحوات والعملاء أمنيا فسنحاربكم أمنيا وإذا تداعيتم علينا فلن تجدوا منا مقاتلا.

صحيح أنه لا توجد جماعة أو تنظيم أو حزب يعترف بعيوبه وخسائره، لكننا لم نرصد في وسائل الإعلام أية معلومات تفيد بحل الدولة ولا اعتقالات كبرى للقيادات أو اغتيالات لها ولم نسمع عن مخازن سلاح اكتشفت ولا عن مختبرات أو مصانع دمرت، كما لم نرصد أية خسائر في البنية المدنية للقاعدة في العراق. ولعل هذا ما يفسر إلى حد بعيد إصرار التصريحات الأمريكية، العسكرية والأمنية والسياسية،على استعمال تعابير حذرة في تقييم ما تحقق من إنجازات أمنية كتعبير "هشاشة الوضع في العراق" أو تعبير "تحت السيطرة" مقابل الامتناع التام عن استعمال تعبير "الانتصار"، بل إبداء التخوف الدائم من احتمال تفجر الأوضاع مجددا. والحقيقة أن ملامح نهوض جديد يمكن ملاحظته بيسر منذ خطاب البغدادي: "وَقَاتِـلوا المُشرِكِـينَ كَآفّـَةً – 9/9/2008" حين قال: " إنا بعون الله على أعتاب فرج قريب ونصر مبين". فالأنباء تتوالى تباعا عن عودة استهداف رجال الشرطة والصحوات وحتى الأمريكيين ولو بحدود ضيقة، لكن أبرز ما لوحظ خلال الأيام القليلة الماضية هو إعلان شبكة الفلوجة عن مشروع إعلامي ضخم للتعريف بدولة العراق الإسلامية في العالم ترافق مع ظهور خطاب الشيخ أسامة بن لادن. فما الذي تحمله المرحة القادمة؟ لا ندري، فما تفعله القاعدة اليوم بالكاد نصل إلى تفسيرات له بعد سنتين أو ثلاثة. لهذا لا مفر من الرصد المستمر.
الاسمبريد إلكترونيرسالة